كان الطيب صالح -يرحمه الله- يبحث في «الهجرة إلى الشمال» حيث الحضارة الغربية، من مرجعية العالم العربي واتجاه أنظاره إلى الشمال الأوروبي كدول استعمارية بشكل خاص ثم الأمريكي كدولة عظمى.. ولكن زميلاً لي في صحيفة خليجية سبق أن استخدم عنوان «موسم الهجرة إلى الشرق» كخيار إستراتيجي للعالم العربي، ولدول الخليج العربية بشكل خاص.
o وعند حضوري في الصيف الماضي لورش عمل بجامعة كامبريدج نظمها مركز دراسات الخليج كانت إحدى ورش العمل عن العلاقات الخليجية الآسيوية، وحضرها إلى جانب الحضور السعودي والخليجي عدد من الأكاديميين وباحثين من مراكز دراسات إستراتيجية وعدد من الدبلوماسيين من الصين والهند واليابان وغيرها من الدول الآسيوية. وكان محور النقاش في بعض محاوره: هل الاتجاه إلى الشرق خيار إستراتيجي لدول الخليج العربية؟.. وهل تستطيع الصين كدولة كبرى أن تتحول إلى دولة عظمى ويمكن أن تحمي مصالح المنطقة في حالة الالتجاء إليها؟.. وهل تبادل الصين واليابان والهند نفس الفكر في أن تتحول إستراتيجياً إلى الشرق الأوسط، وخاصة لدول الخليج؟.
o وكان الهاجس الآسيوي في حينه هو تداعيات الربيع العربي وحدوده القصوى والدنيا في الخارطة العربية وخاصة تداعياته على منطقة الخليج. ولكن ظل السؤال على مدى العقدين الماضيين يطرح مجدداً إلى أين الاتجاه؟.. هل نتجه غرباً أو شرقاً؟.. وخلال السنوات الماضية حدثت -لا شك- تحولات مهمة في السياسات الاقتصادية بشكل خاص نحو الشرق، حيث زيارات قادة المنطقة الخليجية وكبار سياسييها زاروا الصين واليابان والهند وسنغافورة وماليزيا وغيرها من الدول.. وكان الهم الاقتصادي هو القضية الأولى التي شغلت العلاقات البينية، ثم تطوير تحالفات اقتصادية مع تلك الدول.
o ومن الملاحظ أن كبار سياسيي المنطقة يضعون في مقدمة أجندتهم العلاقات الاقتصادية، وهذا حق مشروع لكلا الطرفين، وربما مع محورية الاهتمام الاقتصادي المشرك يختفي الجانب السياسي من الصورة العام لمشهد العلاقات العربية- الخليجية الآسيوية.. ومن المعروف أن الدول الآسيوية لم تقم حتى الآن بالدور السياسي المطلوب في خدمة قضايا وأهداف المنطقة ومصالحها. وعلى العكس أحياناً تأتي مواقف دول آسيوية ضد مصالح المنطقة كما فعلته الصين في مجلس الأمن خدمة لنظام بشار الأسد على حساب مئتي ألف نسمة من ضحايا القتل للمواطنين السوريين، وعلى حساب بعثرة أوراق المنطقة.
o وفي المقابل يجب أن نعترف أن الغرب هو وراء كثير من أزمات المنطقة التي نعيشها منذ عام 1948م عندما تأسست دولة إسرائيل، وما تلا ذلك من دعم وتأييد سياسي واقتصادي لهذا الكيان الذي استمر ويستمر في استنزاف الجهود والثروات العربية، ولم يكن الغرب نصيرا لمواقف وقضايا المنطقة إلا فيما ندر.. وإذا قسنا مدر الضرر الذي لحق بالمصالح العربية سنجد أن بعض الدول الغربية هي أقسى على العرب من أي دول آسيوية، ولهذا فبعد عقود من الهجرة المستمرة إلى الغرب، ربما قد آن الأوان إلى الهجرة إلى الشرق.
o والمشكلة التي تواجهها الدول العربية والخليجية على وجه الخصوص هو غياب سياسة مشتركة وعمل جماعي بين دول الخليج ككيان سياسي وبين الدول الآسيوية.. فكم كنت أتمنى أن تكون هناك زيارات مشتركة لوفود وربما قيادات خليجية مجتمعة إلى الدول الآسيوية حتى يصبح موقف هذه الدول أكثر قوة ونفوذاً على الدول الآسيوية من كون كل دولة تذهب وتبني مصالح بينية فيما بينها وبين تلك الدول.
o والمهم في الشأن الخليجي الآسيوي هو بناء توجه إستراتيجي مشترك بين دول مجلس التعاون الخليجي فيما يتعلق بعلاقاتها مع آسيا، بما في ذلك روسيا وفق معطيات الواقع السياسي والاقتصادي في المنطقة والعالم. يحتاج مجلس التعاون الخليجي إلى صياغة وثيقة إستراتيجية تحدد اتجاهات المجلس نحو دول العالم بما في ذلك الدول الآسيوية، وتكون هذه الوثيقة مرشدة لعلاقات ثنائية بين كل دولة في المجلس وبين كل دولة آسيوية لها نفوذها السياسي والاقتصادي.. وتحدد هذه الوثيقة مسارات العمل وبرامج التعاون، ويمكن أن إشراك دول مثل الصين واليابان وكوريا وسنغافورة في بناء تصور لصياغة هذه الإستراتيجية.