يقول سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (23) سورة الأحزاب، ذكر السيوطي في تفسيره: فمنهم من قضى نحبه قال: مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان (ومنهم من ينتظر) ذلك (وما بدلوا تبديلا) ولم يغيروا كما غير المنافقون (ص 589).
وعبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري، الخزرجي، أبو الوليد صحابي جليل، ومن الموصوفين بالعلم والورع، وكان من النقباء في إسلام الأنصار، وممن شهد العقبة الأولى والثانية، قال عنه ابن الأثير في أسد الغابة «كان نقيباً على القوافل، بني عوف بن الخزرج، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينه وبين أبي مرثد الغنوي، وشهد بدراً وأحداً والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمله رسول الله على بعض الصدقات، وقال له: اتق الله، لا تأتي يوم القيامة ببعير تحمله على ظهرك له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها ثغاء، وفي رواية شاة تبعر.
ومن ورعه رضي الله عنه: قال: فوالذي بعثك بالحق، لا أعمل على اثنين (3:160)، ويرى الزركلي في كتابه الأعلام: أنه ولد عام 38 ق.هـ، ومات عام 34هـ، وأنه شهد المشاهد كلها، ثم حضر فتح مكة وهو أول من ولي القضاء بفلسطين ومات بالرملة أو بيت المقدس (4:30).
وصفه الذهبي بالإمام القدوة، أبو الوليد الأنصاري، وقال عنه: أحد النقباء ليلة العقبة، ومن أعيان البدريين، سكن بيت المقدس، وأنكر على معاوية شيئاً، فقال: لا أساكنك بأرض، فرحل إلى المدينة، فقال له عمر: ما أقدمك؟ فأخبره بما حصل بينه وبين معاوية، فقال له: ارحل إلى مكانك، فقبح الله أرضاً لست فيها وأمثالك، فلا إمرة له عليك، قال الراوي رجاله ثقات ولعل السبب في هذا، جرأة عبادة رضي الله عنه، وحرصه على الجهر بالحق، حيث لا تأخذه في الله لومة لائم، إذ أورد الذهبي: بسنده إلى عبادة بن الوليد قال: كان عبادة بن الصامت مع معاوية، فأذن يوماً، فقام خطيبه يمدح معاوية وثني عليه، فقام عبادة بتراب في يده، فحشاه في فم الخطيب، فغضب معاوية، فقال له عبادة: إنك لم تكن معنا حين بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، ومكسلنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيث كنا، لا نخاف في الحق لومة لائم، وقال رسول الله: (إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في أفواههم التراب) (2: 7)، وقد توسع الذهبي في سيرته رضي الله عنه في سيرته.
وردت أخباره عند المتابعين له، في أكثر من عشرين مصدراً، مما ينبئ عن مكانته وعلمه وصراحته بالحق، حيث روي عن طريق مسلم بن يسار، أن عبادة وكان عقبياً بدرياً، وأحد نقباء الأنصار، بايع رسول الله على ألا يخاف في الله لومة لائم، فقام في الشام خطيباً، فقال: يا أيها الناس إنكم قد أحدثتم بيوعاً لا أدري ما هي؟ إلا أن الفضة بالفضة، وزنا بوزن، تبرها وعينها، والذهب بالذهب وزناً بوزن، تبره وعينه، ألا ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، يداً بيد والفضة أكثرها، ولا يصلح نسيئه، ألا وأن الحنطة مدا بمد، والشعير بالشعير مداً بمد، ألا ولا بأس بيع الحنطة بالشعير، والشعير أكثرهما، يداً بيد، ولا يصلح نسيئه، والتمر بالتمر مداً بمد، والملح بالملح مداً بمد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى (أسد الغابة 3: 161).
قال الأوزاعي: أول من ولي القضاء بفلسطين عبادة بن الصامت، وقال محمد بن كعب القرظي: جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء.. كما كان عبادة يعلم أهل الصفة القرآن، ولما فتح المسلمون الشام، أرسله عمر بن الخطاب، وأرسل معه معاذ بن جبل، وأبا الدرداء ليعلموا الناس القرآن بالشام، ويفقههم في الدين، وأقام عبادة بحمص، وأقام أبوالدرداء بدمشق، ومضى معاذ إلى فلسطين، ثم صار عبادة بعد إلى فلسطين، وكان معاوية خالفه في شيء، أدركه عبادة، فأغلظ له معاوية في القول، فقال له عبادة، لا أساكنك بأرض واحدة أبداً، ورحل إلى المدينة، فقال عمر: ما أقدمك؟ فأخبره فقال: ارجع إلى مكانك، قبح الله أرضاً لست فيها، أنت ولا أمثالك، وكتب إلى معاوية: لا أمر لك عليه، وهذه رواية ابن الأثير (أسد الغابة 3: 160).
وقد روى عبادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وواحداً وثمانين حديثاً (181)، ساقها له بقي في مسنده.
واتفق البخاري على ستة منها، وتفرد البخاري بحديثين منها ومسلم بحديثين، وقد حدّث عنه أبو أمامة البخاري، وأنس بن مالك، وأبو مسلم الخولاني الزهد، وجبر بن نضير، وضبا بن أبي أمية، وابنه الوليد بن عبادة، وابن زوجته أبو أبي، وآخرون غيرهم (أعلام النبلاء 2: 5-11).
وفي صرامته في الحق، أمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، وتبليغاً للعلم الذي اكتسبه، عن رسول الله، ما أورده الذهبي: أن عبادة بن الصامت مرت به قطارة، وهي الإبل الممتدة، واحد خلف الآخر، وهو في الشام، تحمل الخمر، فقال: ما هذه؟ أزيت؟ قيل الإبل خمر يباع لفلان، فأخذ شفرة من السوق، فقام إليها فلم يذر فيها راوية إلا بقرها، وأبو هريرة إذ ذاك في الشام، فأرسل فلان إلى أبي هريرة، فقال: ألا تمسك عنا أخاك عبادة، أما بالغدوات فيغدو إلى السوق، ليفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأما بالعشي، فيقعد في المسجد ليس له عمل إلا شتم أعراضنا وعيبنا.
أما ورعه ومراقبته للنفس، فيبين في مثل الموقف، حيث روي أنه رضي الله عنه مر بقرية دمّر، فأمر خادمه أن يقطع له سواكاً من صفصاف، على نهر بردى، فمضى ليفعل، ثم قال له ارجع فإنه إن لم يكن بثمن، فإنه ييبس فيعود حطباً بثمن (أعلام النبلاء 2: 10).
وقد اعتبره الفقهاء في كتبهم من فقهاء الصحابة ومفتيهم، ونقلوا عنه الشيء الكثير، ذلك أنه كان قاضياً ومفتياً بالشام، فالكتاني نقل في معجمه، مسائل عديدة، وابن قدامه في المغني استشهد له بأكثر من ثلاثين مرة، كما كان يبّصر الناس في أسواقهم بما يجب عليهم.
مما يبيّن ما لهذا الصحابي الجليل كغيره من كبار الصحابة من مكانة علمية، ومكانة في الفتوى، ومن باع طويل، في الإدراك والفقه، لما يجب أن يكون عليه المسلم، في أمور دينه وعبادة ربه، فالفقهاء رحمهم الله يرون إلصاق الجبهة، والأنف بالأرض، عند السجود، حيث قال بهذا الشافعي وأحمد وابن حزم، وغيرهم فلقد رُوي عن ابن عباس أنه قال: إذا سجدت فألصق أنفك بالأرض، ويقول سعيد بن جبير: إذا لم تضع أنفك مع جبهتك، لم تقبل منك تلك السجدة.
أما عبادة بن الصامت، فكان إذا قام في الصلاة حسر العمامة على جبهته، ولذاكره محمد بن سيرين على كور العمامة، ودليلهم الحديث الذي رواه أحمد والبيهقي وأبو داوود وجاء فيه: فيسجد ويمكن جبهته من الأرض، حتى تطمئن مفاصله وتسترخي (فقه السلف 2: 1).
وأخذاً من نص القرآن الكريم في إباحة طعام أهل الكتاب، نرى عمر بن الخطاب وعلياً وابن مسعود وعائشة وأبا الدرداء، وابن عباس وعبادة بن الصامت وابن عمر وغيرهم، أباحوا أكل أهل الكتاب، دون اشتراط لما يستحلونه، مما لا يستحلونه معتبرين الآية مطلقة، ومستأنسين بما حصل لعبدالله بن مغفّل رضي الله عنه، يوم خيبر عندما أخذ جراباً من شحم، والتزمه فقال له النبي هو لك، ولم يحرمه عليه.
ومعلوم بالنص من كتاب الله، أن الشحوم محرمة على اليهود، إلا أن الإمام مالكاً، قد روي عنه أنه لا يحل أكل شحوم ذبحه اليهود (المعجم 4: 201).
وفي الاستئجار على الحج والأذان، وتعليم القرآن والفقه ونحوه، مما يتعدى نفعه ويختص، فأعلمه أن فاعله، من أهل القربة روايتان، كما قال ابن قدامة، إحداهما: لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق، والأخرى: يجوز وهو مذهب مالك والشافعي وابن المنذر، لأن لقول النبي صلى الله عليه وسلم، أحق ما أخذتم عليه أجراً، كتاب الله، رواه البخاري.
وجه الرواية الأولى: أن عبادة بن الصامت، كان يعلّم رجلاً القرآن، فأهدى إليه قوساً، فسأل النبي عن ذلك، فقال له: إن سرتك أن تتقلد قوساً في النار فتقلدها. (المغنى 5: 24).