العلم يدعو للإيمان بالله، والتصديق بكل ما جاء عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك مما لا يتطرق إليه الشك، فالله هو الخالق المصور، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، رحمته سبقت نقمته، ومغفرته وسعت كل شيء.
والعلم يعمق المعرفة؛ لأنه إذا رسخ في القلب فهماً واستجابة حث على اليقين والتقوى. وقد مدح الله المتقين في كتابه الكريم مرات عدة؛ لأن التقوى مراقبة الله في السر والعلن.
والإنسان خلقه الله لعبادته وطاعته، وهذا هو الهدف الأساسي من الحياة الدنيا، يحوطه الله بعنايته، ويكلؤه - جل وعلا - برعايته وفضله قبل أن يخرج للحياة، ويدفع عنه سبحانه الشرور والآفات إلى أن يحين أجله ويفارق الدنيا.
ولعلنا لو سرنا مع هذا المخلوق البشري في مراحل نموه، وهو في بطن أمه، وما جعل الله له من الحماية والأشياء التي حوله وتحفظه، لأدركنا في كل خطوة واحداً من الأسرار الدفينة في النفس البشرية، حسبما نستوحيه من قول الرب - جل وعلا - في سورة الزمر: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (6) سورة الزمر.
قال ابن كثير في تفسيره: خلقاً من بعد خلق: يكون أحدكم أولاً نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يخلق فيكون لحماً وعظماً وعصباً وعروقاً، وينفخ فيه الروح، فيصير خلقاً آخر {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}.
وفي قوله جل وعلا {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ}: يعني في ظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، التي هي كالغشاء والوقاية للولد، وظلمة البطن، كذا قال ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد وعكرمة وأبو مالك والضحاك والسدي وقتادة وابن زيد. وعن هذا القول نقل كثير من المفسرين رحمهم الله (تفسير ابن كثير 4: 46).
هذا الإنسان الذي جاء في آية أخرى أن الله خلقه من ماء مهين، أي حقير، ثم يكون إنساناً كاملاً، وبشراً سوياً في أحسن تقويم، جمالاً وقواماً، وعقلاً وإدراكاً، إلى غير ذلك من الصفات التي أودعها الله فيه، يمر في بطن أمه بتطورات الخلق للإنسان كلها بأسرارها وعجائبها، خاصة في تلك الفترة الزمنية، التي يكون المخلوق فيها ضعيفاً؛ إذ قال سبحانه {خلقكم من ضعف}، فهيَّأ الله له مكاناً محفوظاً فيه، يتلاءم مع نموه وتطوره في الخلق والتكوين في الظلمات الثلاث، وأجهزة تحتضنه وتحافظ عليه، وغذاء يناسب نمو جسمه.
هذه الأمور وغيرها، فوق قدرات البشر واحتياطاتهم تكلؤه رعاية الله وعينه التي لا تنام.
لقد استطاع البشر بعد جهد جهيد، وبعلمهم المتطور، صنع الحاضنات والرعاية، إذا خرج المولود قبل استكمال أيام الحمل وكان ناقص النمو، ومع هذا لم يستطيعوا أن يعوضوا الطفل بما كان يحمل محل البطن من الأم، طوال فترة الحمل، بمثل الإمكانيات والأسرار التي أوجدها الله سبحانه في بطن الأم، وهذا مما يدعو للتبصر والاعتبار، أخذاً من دلالة الآية الكريمة الداعية إلى ذلك.
وأكمل من ذلك بعدما يُنفخ فيها الروح، فتكون له حركات وتقلبات في جو آمن ومناخ مهيَّأ، بعد أربعة أشهر من علوق الحمل، فتكون كل حركة سراً عجيباً، ودلالة كبيرة على قدرة الله وحكمته البالغة، ورعايته لهذا الإنسان الذي تبرز فيه أول المواهب المهيأ لها في الدنيا.. بل ذلك يعرف للكائنات الحية كلها، المماثلة أو المقاربة للإنسان في نمو خلقها.
وفي عصرنا الحاضر بعدما تقدَّم الطب والتشريح، وتطورت الدراسة الدقيقة، بما ابتكروا من أجهزة، تبيّن وضع الجنين في بطن أمه، وأدركوا أنه يُحاط بأغشية تحميه من الصدمات والأضرار، حتى ينمو ويتكامل في جو آمن وملائم، من حيث الحرارة ونسبة الرطوبة، والغذاء والأمان من الأخطار؛ لأنه ضعيف لا يقدر على التحمُّل، أو الدفاع عن نفسه، فمن الذي أوجد له الجو الملائم، وهيَّأ له الحماية من أي مؤثر يسيء إليه، ومن الذي يسَّر الغذاء الكامل الملائم، وفطره على الكفاية بالقدر المناسب، لا قليل لا يسد الحاجة، ولا كثير فوق الحاجة؟!
أليس ذلك مما يدعو للعبرة، وإمعان الفكر، للبحث عن هذه الأسرار المُحْكمة، والتفكر فيها كما يدعو للتبصر، وإحالة الحواس، ثم العرفان بقلب صادق لمن هيأ ذلك، بقدرته وعلمه - جل وعلا - وحمده وشكره على ذلك الفضل الذي يجهل سره كثيرٌ من الناس؟
لقد ذكر الدكتور محمد علي البار في كتابه خلق الإنسان بين الطب والقرآن بعض الفوائد لواحد من السوائل، أو الأغشية التي جعلها الله لحماية الجنين في بطن أمه فترة تكوينه ونموه، وهو غشاء السلى، أو المعروف باسمه العلمي لدى المختصين (الأمنيون amenion)، وهو الذي يحيط بالجنين مباشرة، وهو واحد من الحواجز التي خلقها الله بقدرته، وهيأها برحمته، لحماية الجنين والمحافظة عليه من الأخطار التي تضره وهو في بطن أمه، وإلا فإن لبقية السوائل التي أوجدها الله في الرحم فوائد ومصالح في حماية الجنين وهو في فترة التكوين.. فسبحان الخالق العظيم.
ومن فوائد غشاء السلى التي ذكر الدكتور البار:
1 - تغذية الجنين؛ إذ يحتوي هذا السائل على مواد زلالية وسكرية وأملاح غير عضوية، يمتصها الجنين؛ ما يساعد على تغذيته ونموه.
2 - حماية الجنين ووقايته من الصدمات المفاجئة، والحركات العنيفة، والسقطات التي تتعرض لها الأم.
3 - يسمح للجنين بالحركة الكاملة داخل الرحم.
4 - يحتفظ الطفل بحرارة دائمة ثابتة تقريباً؛ فهو مكيف جيد؛ إذ لا تزيد الحرارة ولا تقل، إلا في حدود ضيقة جداً.
5 - يمنع السائل (الأمنيوني) غشاء (الأمنيون) من الالتصاق بالجنين؛ وذلك لأن التصاق الغشاء بالجنين من العوامل المهمة في حدوث التشوهات الخِلقية؛ فوجود السائل عاملٌ مهم في تجنب هذه التشوهات الخِلقية.
ثم يقول أيضاً: إن جيب المياه المتكون من هذا السائل يجعله الله وقاية لرأس الجنين أثناء الولادة من التهشم، كما أن انفجار جيب المياه هذا عند الولادة يقتل الميكروبات الموجودة في المهبل قبيل الولادة مباشرة؛ حتى يضمن للجنين طريقاً ممهداً ومعقماً في الوقت نفسه. وهذا ليس هو كل السر في ذلك الأمر، بل هذا جزء مما ذكره الدكتور البار في التبصر في خلق النفس البشرية وحمايتها، بل هو جزء من العناية الإلهية التي لا تحصى، مما عرفنا أو مما غاب عنا سره، وإنها حقاً لآيات وعبرة، تحتاج إلى وقفات من التأمل والفهم العميق لمدلول الآية الكريمة الآتية: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (32) سورة النجم، وإدراك مثل هذا جزءٌ بسيط من فَهم الآيات الكريمة التي جاء فيها خلق الإنسان، ودعوة للتفكر الذي أمر الله به والتأمل العميق، كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (21) سورة الذاريات؛ لأن الله يحوطنا برعايته، ويحمينا بعنايته، وتحفظنا عينه التي لا تنام من أشياء كثيرة، لا ندري عنها شيئاً، ولا نراها، ولا نعرف كنهها وخطرها إلا بما يعرفنا به الأطباء.
بل إن كل ما ظهر لنا عن بعض الأمور من سر فإنما هو من الدعوة لترسيخ اليقين في الوجدان، وتحريك الإيمان الصادق بالله وعظمته وقدرته؛ ما يجب مقابلته بالشكر الذي به تدوم النعم.
فالله سبحانه يدعو أرباب العقول السليمة إلى ربط كل سر عرفوه، وبان لهم شيء من عجائبه، ومقابلة ذلك بالاعتراف له بالفضل، ولدينه الذي أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالفضل؛ لأنه كامل، ولا يتطرق إليه الشك، ألا ترى أن الإنسان إذا أحسن إليه أحد يشكره ويثيبه بالثناء والمديح، كما جاء في الحديث: “من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له”.
فالله سبحانه وتعالى غني عن عباده بالمكافأة، وإنما يطلب ما هو خير لنا بالإخلاص له في العبادة، وحمده على ما هيأ لنا من العناية والمحافظة، منذ كنا أجنة في بطون أمهاتنا، وجعل لنا السمع والبصر والأفئدة، لعلنا نقابل ملك الفضائل بالعرفان بحقها من الشكر والعرفان بالمكانة اللائقة وحسن العبادة.
وفي هذا دعوة للنفس البشرية بأداء حق العبادة لاكتساب الأجر والثواب من الله، القائل سبحانه: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (7) سورة الإسراء، فهو يعطي عباده الكثير، ولا يطلب منهم إلا القليل عقيدة في القلب، وذكراً باللسان، وعبادة قدر الطاقة، فسبحانه من إله ما أحكم صنعه، وما أرأفه بعباده، فما أدق الأسرار التي أودعها في النفوس البشرية، ويكشفها المختصون علمياً من البشر؛ ليجد الناس من تتبع نعم الله عليهم في كل يوم علماً جديداً، وصدق الله في قوله الكريم: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء، فعلم البشر مهما تكاثر، ومهما تفتحت مغاليق الأمور أمامهم، فإنه يتضاءل أمام علم الله وقدرته الكونية، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شريف مطول.
وقد تأتي الموعظة من شخص صغير في علمه، لكنه كبير في عقله وعقيدته، إذ يُحكى أن رجلاً متعاظماً في نفسه متكبراً في طباعه مر على صانع في غرفته، فوقف عليه ولم يقم له، أو يرفع رأسه ليقدره، فقال هذا المعاظم في نفسه: ألا تعرفني؟ ولِم لا تقوم لي احتراماً وتقديراً؟
فرفع الصانع نظره نحوه، وخاطبه وهو مستمر في عمله قائلاً: بلى أعرفك؛ فأولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وبين ذلك تحمل في بطنك العذرة، والكِبر رداء الله، فمن نازعه فيه قصمه الله. فانصرف عنه، وكانت موعظة له من هذا العامل البسيط، ليغير من تعاظمه.