كل كائن حي في الدنيا يحرص، ويهتم بها بل يرهبه شبح الموت، ويتضايق من سماعه، فالبهيمة من الأنعام تفرق من السكين لأنها رمز للموت، ولذا نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن شحذ الشفرة أمام الذبيحة، وهي تنظر، كما أمرنا عليه الصلاة والسلام، بإراحة الذبيحة، وأن تكون السكين حادة، حتى تنجز الشفرة على الذبيحة
ولا تطول فترة الذّكاة، ضمن حديث في الرأفة بالحيوان، وذلك بسرعة إزهاق حياتها وروحها.
وهكذا الحيوانات الأخرى، من أنيسة ومتوحشة، وكذا الرأفة بالطيور والحشرات كلها لأنها تحرص على البقاء، وتخاف الموت، لكنها لا تعبر عن ذلك، لأنها من مجموعة العجماوات.
وقد جاء تحذير ووعيد في تعذيب بعض الكائنات الحية بالنار وهي حية، لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، وهو الله سبحانه. وكل هذا من الإحسان الذي كتبه الله وهو سبحانه يحب المحسنين.
وحتى في القصاص الشرعي، أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالإنجاز حتى لا يعتبر التراخي تمثيلاً، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) حديث صحيح، وهذا من الإحسان في كل أمر الذي كتبه الله، ولو كان القصاص في مجرمين جبابرة.
ويروى في الأحاديث الإسرائيلية، أن ملك الموت، إذا حان وقت وفاة النبي أنه يدخل عليه ويسلم عليه ويخبره بما جاء من أجله، وضربوا أمثلة بموسى وداود وسليمان، ورسول الله قال: الأحاديث الإسرائيلية، لا تصدق ولا تكذب، وحدثوا عنهم ولا حرج، قال بعض أهل العلم: لا تكذب لئلا يكون في شرعنا ما يؤيدها، ولا تصدق لئلا تكون مكذوبة، لكن شريعتنا كاملة، ولسنا بحاجة لما جاء في كتبهم، ذلك أن رسول الله رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة من كتب أهل الكتاب، فغضب صلى الله عليه وسلم، وقال له: أفي شك مما جئت به يا ابن الخطاب، والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي) فرماها عمر وقال: أستغفر الله.
وقد جعل الله سبحانه في الموت موعظة، ليعرف الإنسان مصيره، حتى يستعد له، ويأخذ أهبته، لما جاء في الأثر: كفى بالموت واعظاً، ورسول الله قد أباح لأمته زيارة القبور للرجال دون النساء، وقال: لأن الزيارة تذكركم الآخرة، وعلل بعض العلماء عدم السماح للنساء بزيارة القبور، لعواطفهن مع رقة القلوب وعدم التحمل، لكنه أباح لهن الصلاة على الجنائز.
وقد منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من تمني الموت، في قوله: (لا يتمنين أحدكم الموت لضرّ مسه، بل يقول: اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وأمتني إذا كان الموت خيراً لي) حديث صحيح.
والنفس ملك لله، ويحرم قتلها، كما أوضح رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، بأن قاتل نفسه في النار، وأنه يجؤها بالحديدة التي جعلها مزهقة لنفسه في نار جهنم، وكانت سماً يتجرعه بها في نار جهنم، وفي حجة الوداع، جاء في خطبته صلى الله عليه وسلم، يوم العيد الأكبر: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، اللهم أشهد هل بلغت؟) قالو: نعم فأشهد ربه عليهم.
والإنسان الذي أكرمه ربه، وميزه بالعقل، وفضله على كثير مما خلق سبحانه، وجعله رمزاً للحياة على وجه الأرض، وما تنبئ عنه من عبادة وشكر لله، وقد نهى الإسلام عن إلقاء النفس في التهلكة، كما أبان الله، في القرآن الكريم في سورة النساء عن ثلاثة جزاءات شديدة لمن يقتل نفساً مؤمنة، كل واحد منها أشد من الآخر، حتى تبقى النفس المؤمنة مصونة محترمة، في حماية الوعيد الشديد يقول سبحانه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (92 - 93) سورة النساء.
وفي إحدى الغزوات، كان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسامة بن زيد قد قتل رجلاً بعدما قال: لا إله إلا الله، وأخبر رسول الله فعاتب أسامة فقال: إنما قالها متعوذاً، فقال: هل شققت صدره؟ هل علمت ما في قلبه؟ كيف بك إذا جاءتك لا إله إلا الله تحاجك عند الله قال: فما زال يرددها، لحرمة دم المسلم، فقال أسامة: وددت أن أمي لم تلدني بعد من تكرار الرسول هذا الوعيد، وتبلعني الأرض، ومع هذا التشديد في حماية النفس البشرية، في الإسلام فإن كثيراً منهم إلا من رحم الله - يدفعون بأنفسهم إلى الموت، ويضيعون جزءاً من أوقاتهم الثمينة، ويقتطعون أوصالاً من أعمارهم ولا يشعرون بنفاسته ولا يهتمون به، لأن العمر هو الوقت، فإن من يضيع وقته بدون عائد على نفسه أو على أمته بالنفع، فقد ضيع جزءاً من عمره يقر به من الموت، يقول الشاعر:
إذا مرّ بي يوماً ولم أصطنع يداً
ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري
والوقت هو الحياة كلها، لأن دين الإسلام لم يحدد وقتاً للعب والفراغ، بل جعل الله النوم سباتاً: أي راحة للبدن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول لمؤذنه بلال: يا بلال أرحنا بالصلاة، والذي يعرف قيمة الوقت يشغله فيما يفيد: علماً وتعليماً، وعبادة وتأملاً، ويعطي نفسه وأهله حقهما، كما حصل في قصة المتبتلين من الصحابة فلامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعهم بشدة، وقال لهم: أما إني أخشاكم لله، فإني أصوم وأفطر وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، وقال: إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، وجاء في الحكمة: إنما الميت ميت الأحياء، ولتدرك قيمة الوقت، فإن المخلص الصادق يوزعه في العبادة، سواء كانت بدنية أو لسانية، وراحة لبدنه مع أهله وذوي قرابته وعمله الذي يدر عليه، وعمر بن الخطاب رأى رجلاً متبتلا، دائماً في صلاته، فقال له: من ينفق عليك؟ قال: أخي الذي يعمل وينفق عليّ وعلى أهله. فقال له عمر: أخوك أعبد منك، فيجب أن يوزع وقته، ويتجنب ما فيه من ضرر وعدم نفع، ولا بأس بالمزاح الذي يريح القلب والبدن، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمازح أصحابه، وحكاية نعيمان معه عليه الصلاة والسلام، ومع عثمان بن عفان معروفة في كتب النوادر.
إذ من نوادره أنه غرّر بأعرابي، فبال في مسجد رسول الله، فقام إليه الصحابة، يزجرونه ويشنعون عليه فعلته، فأومأ إليهم رسول الله أن دعوه حتى أكمل بوله، ثم دعا بذنوب من ماء فأهريق عليه، وبهذه الحادثة أخذ الصحابة ومن بعدهم، أحكاماً عديدة، منها حكماً شرعياً بسماحة الإسلام، وطهارة المسجد بهذا العمل البسيط، دون حاجة إلى جهد كبير في تطهير المكان، ولعله يتاح فرصة نعطي بها طرفاً من النوادر، إذ لما كانت النفس لها قيمة وشأن عظيم، لأنها ملك لله، فقد نهى الله عن قتلها، وامتحن الله قوماً من بني إسرائيل بذلك، إلا أن أعداء الإسلام اتخذوها سلاحاً، تباعد المسلمين عن دينهم، فسلطوا عليهم: ما يخامر العقل، ويقتل النفوس بالمسكرات، والمخدرات والإسراف في التدخين وغير هذا مما يضر بالبدن، ويفتك به حسب النشرات الطبية والإحصائيات الرقمية، علاوة على ما يحدثون من جرائم عديدة، تتسبب بهذه الموبقات، صحياً واجتماعياً وخلقياً.
فبالتهاون بها يكثر ارتكاب المحرمات، كالسرقة والقتل والزنا واللواط، وهتك الحرمات، وإخافة المجتمع واختلال الأمن، والخوف وغير ذلك، مما يسبب أمراضاً اجتماعية وبدنية لم تعرف عند من سلف من القرون - كما أخبر بذلك الصادق عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن القلق في المجتمع جزء من تلك المصائب، ومن هنا أن دين الإسلام مثلما يطلق بعضهم: بأنه دين ودنيا، وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا (77) سورة القصص. فهذا في أمور الدنيا: وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ (77) سورة القصص. وهذا في مور الدين أيضاً.
ولذا، نرى علماء الإسلام، تمر أيامهم: ساعة للدين وساعة للدنيا، وقد أخذوا بجانب ما يريح النفوس، إلى جانب الجد إذ نرى في تراثهم من هذا ومن ذلك، ونرى الأصبهاني وهو من علماء الأصول وكلّه جدية، فالراغب الأصبهاني الف كتاباً من عدة أجزاء وسماه: محاضرات الأدباء، ومسامرات البلغاء، وقصد في منهجه إزالة السأم عن القراء، لأنه أدرك هذه الرغبة من نفسه، واستوحى الأمر من منهج رسول الله مع أصحابه، ومنهم نعيمان ليخفف بالنوادر ويسرى عن النفوس.
فمثلاً يتندر على ابن الجصاص وهو أصولي مثله، فأثبت عنه أنه كان مع المتوكل في مجلس على النهر خاص بالسمار، فقال له: عندي لك فاكهة في غير أوانها، فقال: هاته: فقال ابن الجصاص هنا في كمي، ومد الخليفة العباسي يده فبصق فيها، ورمى الفاكهة في النهر، فقال الخليفة: ما هذا قال: لقد غلطت، فأردت أن أبصق في يدك، وأرمي الفاكهة في النهر قال: هذا ما حصل فقال: نسيت لا تواخذني لقد أردت أن أبصق في النهر وأضع الفاكهة في يدك فضحك القوم. ولعل هذا من الصنعة بعضهم على بعض، وقد أورد حكاية عن علي رضي الله عنه قد تكون من الألغاز.
جاء عنده أن علي بن أبي طالب: جالس مع أصحابه فقال له رجل: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أكره الحق، وأصلي بدون وضوء، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء، فتعجب من حوله، وفسّرها لهم، بأنه يكره الموت وهو حق، وأصلي على النبي من غير وضوء، ولي زوجة وولد، والله سبحانه منزه عن ذلك. يقول الله في سورة الجن: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) سورة الجن.
ومثل هذا الكتاب كثير، فيه جدّ وهزل، لكنه قصد به إراحة النفوس وإزالة السأم، وما فيه من نوادر غير موثقة، لأنها لا يبنى عليها حكم شرعي، والحديث ذو شجون.