| |
الدبلوم
|
|
لم تسع الفرحة عبدالله، وهو يخرج من الجامعة، يحمل في يده شهادة اجتيازه دورة تدريبية في تدريس اللغة الإنجليزية للمرحلة الابتدائية، ممهورة بتواقيع عديدة، ويتوسطها شعار الجامعة، وقد طرزت أطرافها بأشكال وألوان زاهية، وخطوط رائعة.. عند أول محل للتصوير توقف ونزل من سيارته مسرعاً، فهو في عجلة من أمره - فوالداه وإخوانه الصغار في انتظاره - وبعد تصويرها وتغليفها ركب سيارته عائداً إلى منزله، وكان أول من استقبله والدته التي ظلت واقفة بالقرب من الباب تنتظر قدومه، احتضنته ودموعها تسابق كلماتها، فقبل رأسها وكفيها، ثم أخذ بيدها حتى وصلا إلى صالة المنزل فسلم على والده وقبل رأسه ويده، وتسابق إخوته للنظر في شهادته. بعد هذا اللقاء العاطفي وهذه الانفعالات العميقة، أحضرت والدته طعام الإفطار وبعد تناوله، بدأ في تصفح الجرائد كعادته في كل يوم. لفت انتباه إعلان لأحد المدارس الابتدائية الأهلية، تطلب فيه معلماً للغة الإنجليزية، قرأ الإعلان مرات كثيرة، ثم اتصل بالمدرسة فطلب منه مديرها مقابلته.. حياه مدير المدرسة وطلب منه عرض مؤهلاته، فمد له شهادة الدبلوم، دقق النظر فيها.. ثم سلمه جدولة المدرسي.. عاد إلى المنزل والأرض تكاد لا تحمله من شدة فرحه، بشر والديه بما تم له من توفيق، وقال: هذه ثمرة جهودكما وبذلكما. وفي الغد انطلق إلى المدرسة بهمة ونشاط، وطوال الطريق كان يتخيل نفسه داخل الفصل يشرح ويوجه. وحين وصل إلى المدرسة، شارك زملاءه في ترتيب الطلاب لأداء تمارين الصباح، وبعد الانتهاء وقرع الجرس، انطلق إلى الفصل بهمة ونشاط فسلم على الطلاب وعرفهم بنفسه، وكذلك فعل الطلاب، ثم شرع في طرح بعض الأسئلة ليستشف من خلالها ما بينهم من فروقات فردية.. والبسمة لا تفارق وجهه، فانجذب إليه الطلاب وارتاحوا إليه. وحين انتهت الحصة، توجه إلى غرفة المعلمين، وبدأ يسأل عن أحوال الطلاب المادية والاجتماعية والنفسية.. وجد تجاوباً كاملاً من بعض المعلمين، وآخرين عدوا ذلك من قبيل الحماس الزائد، فلم يلقوا لتساؤلاته بالاً. مضت الأيام تلو الأيام وعبدالله مثال يقتدى به في الجد والبذل والعطاء، لهج الجميع بذكره، وأحب الطلاب مادته. وحين مضى من الدراسة بضعة أسابيع، إذا بأحد المشرفين التربويين يحضر إلى المدرسة، ويطلب من المدير تزويده بأسماء معلمي مدرسته، وأثناء تصفحه لفت انتباهه المؤهل الذي يحمله المعلم عبدالله، فقال لمدير المدرسة: كيف تمكن هذا من التدريس! وهو لا يحمل مؤهلاً جامعياً! أما علمت أن ذلك مخالف للأنظمة والتعليمات؟ تمالك المدير نفسه وقال: هذا من خيرة المعلمين، فلم أر طوال عملي في التعليم مثله في الحرص على الطلاب، والتنويع في طرق التدريس، واستخدام الوسائل التعليمية المناسبة.. قال المشرف التربوي: أنت مدير قيم وقدير، ولن يتسرب إلى نفسي شك فيما تقول عن هذا المعلم، ولكن التعليمات واللوائح واضحة في هذا الشأن. فقال المدير: يا أستاذ أحمد هل يعقل أن أطلب من هذا المعلم المتميز، ترك المدرسة دونما سبب وجيه! فقال المشرف التربوي: أنا وأنت لسنا في مقام الاختيار، فنحن جهة تنفيذية فقط. فقال: أجل من فضلك تولى أنت أمره. استدعاه المشرف التربوي، وحينما نظر إليه تردد في مخاطبته، فسيماه تشهد له لا عليه، وبعد فترة صمت قال المشرف التربوي: يا أستاذ عبدالله لا أدري كيف أبدأ معك في الحديث وأرجو أن تعذرني، فقال عبدالله: خيراً إن شاء الله، فقال المشرف التربوي: التعليمات والتوجيهات، تنص على أن لا يقوم بالتدريس سوى من يحملون مؤهلاً جامعياً فقط. وقع عليه الخبر كالصاعقة فتلون وجهه، فلم يكن يتوقع أن يسمع مثل هذا الكلام، فاحتار في رد الجواب، فالذي شجعه على الالتحاق بتلك الدورة التدريبية، تأكيد المسؤولين بأن خريجي هذه الدورة، مؤهلون لتدريس مادة اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، طأطأ رأسه، ووضع كلتا يديه على صدغيه.. قدر المشرف التربوي حرج موقفه، فاستأذن وكأنه يريد إجراء مكالمة هاتفية. مكث عبدالله فترة من الزمن على هذه الحال، ثم اعتدل في جلسته، فذكر الله، وقام يجرجر أقدامه نحو غرفة المعلمين، ومن حسن حظه أن لا أحد فيها. حمل دفتر التحضير وأدواته، ومضى يغالب أحزانه، فدلف إلى الفصل يغتصب الابتسامة - وهي عادته كلما دخل على طلابه - جاهد نفسه في أن يبدو أمامهم متماسكاً ولكن أنى له ذلك، فقد لاحظ عليه طلابه تغير سحنته وتشتت ذهنه.. فران عليهم صمت لم يعهده في حصته منهم. مضى في شرح درسه وهو يغالب أحزانه، وقبيل نهاية الحصة استدنى الكرسي وألقى بثقله عليه، ومد يديه أمامه وشبك ما بينهما، ولم ينبس بكلمة، وطلابه كأن على رؤوسهم الطير وبعد فترة من الصمت والانتظار حرك جسمه، ثم خفض بصره ورفعه، وقال بصوت حزين: لعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا.. ثم خنقته العبرة، فكانت دموعه أبلغ من كلماته، لم يتمالك بعض طلابه أنفسهم، فانخرطوا في بكاء مرير، وحين رن الجرس أحاطوا به من كل جانب.. ودعهم ودعا لهم بالمزيد من التوفيق والنجاح، وكانت هذه آخر حصة له في هذا اليوم، ودع زملاءه وعانقهم، فلم يتمالك بعضهم نفسه فأجهش بالبكاء. ركب سيارته القديمة وواصل سيره إلى المنزل في غير وقته المعتاد، ولم يكن في المنزل غير أمه، وحينما رأته، رجف قلبها وشحب وجهها، وقالت بصوت مبحوح: خيراً إن شاء الله، فتكلف الابتسام وقبل رأسها، وأخذ بيدها إلى أحد الكنبات فأجلسها، وجلس هو على أحد أطرافها، ويده على كتفها والأخرى وضعها على كفها، وقال بصوت خفيض، وفي حال من الهدوء والسكون: إذا أغلق باب فتحت أبواب كثيرة غيره، فنظرت إليه، وقد انفرجت أسارير وجهها وقالت: صدقت فلذة كبدي وحشاشة قلبي، (رزقكم في السماء وما توعدون). ضاقت السبل بمدير المدرسة.. فلم تجد إدارة التربية والتعليم بداً من الإعلان، فتقدم إليها الكثير ممن أتوا محارم مع زوجاتهم، فوقع الاختيار على أحدهم ويدعى عبدالحي، فأحضر صوراً من مؤهلاته وخبراته، فتم توجيهه للمدرسة. استلم جدوله المدرسي، وحين رن الجرس، دخل الفصل مقطب الجبين، مكفهر الوجه وشرع في إملاء طلباته.. وحين انتهى منها قال أحد الطلاب: ماذا نفعل بالدفاتر السابقة؟ فنظر إليه بشزر وقال: أنت طالب وقح، فتغيرت ملامح وجهه وسكت. بقي المعلم صامتاً فترة من الزمن، لا يدري كيف يبدأ الحصة، طلب من الطلاب، فتح الكتاب على صفحة.. ودار بينهم ويديه خلف ظهره، ثم طلب من أحدهم القراءة، فلما عجز لكزه، وطلب من آخر القراءة فلما عجز ضربه على وجهه. وقف أمام السبورة وقال: الويل كل الويل لمن يأتي في الغد، ولم يحفظ تلك الكلمات ويتقن كتابتها، ثم جلس على الكرسي، يقلب صفحات الكتاب المدرسي.. حتى انتهت الحصة. كثرت شكاوي الطلاب وبعض أولياء الأمور، فكونت لجنة لمناقشته ومتابعته، فإذا المؤهلات التي تقدم بها مزورة، ولم يكن سوى مرشداً سياحياً، يجيد الرطانة ببعض الكلمات الإنجليزية، وصل الخبر إلى عبدالله، فقال يخاطب نفسه: يا ترى كم مثله يعبث بالعقول والأجساد، ونحن عنهم غافلون أو متغافلون.
محمد بن فيصل الفيصل/ المجمعة
|
|
|
| |
|