تعلو الأمم بما تحققه من منجزات في الواقع الذي تعيشه، ويهاب جانبها بما تملك من قوة حسية ومعنوية تدافع به عن دينها وأرضها ومكتسباتها، وما يُقال عن الأمم والممالك والحكومات يُقال عن الأفراد، فكل فرد يعلو شأنه بما يملك من علم وفقه وخبرة، وما يحققه من نجاح في واقع حياته.. ولا ينفعه شيء إذا ما فشل في الحياة وعجز عن تحقيق أي نجاح أن يقول: كان أبي وكان جدي!!
ولقد سعدت كثيراً حينما حضرت الحفل الختامي لمزاين الإبل في محافظة الخرج الذي شرَّفه وتوَّجه صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبدالعزيز - حفظه الله ووفقه - ولقد سمعت من سموه كلمات كانت كالجواهر في عقد فريد وكالمطر من مُزْن هتَّان وكان مما قاله: (يسعدني أن أدعم مثل هذا العمل وأساهم فيه مستقبلاً بشرط، ذلك الشرط هو نسيان الماضي وترك التعصب والتفاخر بناءً على ما حصل فيه، فالماضي فيه الحسن والسيئ ونحن في بلد وحَّده اللهُ وجعل الألفة بين أبنائه، وعزُّ أبنائه في وحدتهم وتآلفهم تحت قيادتهم وفي ظل دينهم).
إن سموه قال الحقيقة في أبهى صورها، وقدم التوجيه في أزهى حُلله، وأبان عن صدق هو أهله، وعن أصالة هو من منبتها.
فبلادنا - بحمد الله وتوفيقه - نعمت بالأمن، وازدهرت تجارياً وزراعياً وعلمياً وعسكرياً حينما أسسها عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - على التوحيد، وكان توحيد الله موحداً لها حسياً ومعنوياً، فانتهى بحكم الملك عبدالعزيز التفاخر بالأنساب والعداوة من أجلها، وأصبح سكان المملكة اخوة متحابين لا فرق بنيهم وتحقق لنا بحمد الله من المودة والتآلف ما لم يتحقق لأمم وشعوب كثيرة في أنحاء العالم.
وحينما صدع الملك عبدالعزيز بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، كان - رحمه الله - يدرك عمق المعاني التي تحملها هذه الآية، فالأسماء والألقاب من أهم أهدافها التعارف وصلة الأرحام، ويؤيد هذا ما ورد في الأثر (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)، أما التفاضل والتميز فيكون على أساس التقوى، فخير الناس أتقاكم لله، وذلك التقي هو الذي يوثق به ويُعْلَى شأنه وعلى هذا الأساس جاء قول ابنة شعيب لأبيها في القرآن الكريم: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}، القوي في دينه وعلمه وجسمه، الأمين الذي لا يخون، ولا قيمة هنا للنسب والحسب.
ولقد كان صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بعيد النظر حينما اشترط ذلك الشرط لمواصلة دعمه لمهرجان مزاين الإبل، فهو يرى كما نرى ونحن وكل مواطن أن الإبل ثروة تجب العناية بها وتشجيع أصحابها كما نعتني بكل ثروات هذه البلاد، ولا إشكال في ذلك، ولكن المحذور أن يَتَحوَّل هذا العمل إلى تفاخر ممقوت وتنافس غير شريف.. ولهذا جاء توجيهه حفظه الله.
وإنَّ مما يثير العجب أن نرى بعض الناس اليوم - وإن كانوا قلة قليلة - ينشغلون بالتغني بأمجاد ماضيهم فيقول أحدهم كان أبي وكان جدي، وهو سلبي لا عطاء له، ومغمور لا وجود له، ومحدود الإمكانات المادية أو المعنوية، وما درى المسكين أنَّ ترديد أمجاد الماضي لا ينفع ما لم يثبت الفرد جدارته وتبرز مواهبه، ويعرف الناس ما لديه من تفوق ونجاح، ولله در القائل: