| |
شيء من ولكن (الأحوط) الترك! محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ
|
|
طالب العلم المتشدد، البعيد عن التسامح والوسطية، وفقه التيسير، (يحتاط) عادة بتصنع وتكلف ظاهرة في التعامل مع الأحكام بذهنية تنحو دائماً إلى الإمعان في (الحيطة)، والمغالاة في الحذر. وهذا ما جعل الإسلام في النتيجة عند هؤلاء المتشددين - كما يقول الدكتور القرضاوي - مجموعة من أحكام (الأحوطيّات)، وهو ما سوف أتحدث عنه في هذا المقال. تسألُ أحدهم - مثلاً - عن صفة حجاب المرأة، فيجيب على الفور: فيه خلاف بين الفقهاء فهناك قولان: إما النقاب و(غطاء الوجه) عند بعض الفقهاء، أو أنه (كشف الوجه)، والاكتفاء بغطاء الشعر عند البعض الآخر، ولكن (الأحوط) غطاء الوجه، وربما يضيف: والكفين أيضاً!.. تخرج إلى الشارع لتجد أن هذا (الأحوط) هو الأصل المعتمد في تعامل رجال الحسبة مع الناس. وتلتفت إلى آخر، فتجده يقول: (الخلوة) هي الممنوعة شرعاً، و(الأحوط) منع (الاختلاط) بين الرجال والنساء بالكلية، لأنه (قد) يفضي إلى الخلوة المحرمة.. ومع الوقت، والتباري في التشدد بين هؤلاء المشايخ نجد أن هذا الذي تم تقديمه على اعتبار أنه (احتياط)، أو (الأحوط)، يتحول مع الزمن، ومع النزعة التشددية، إلى حكم مستقل في حد ذاته، من رده أو تساهل فيه، فكأنما تساهل في (ثابت) من ثوابت الإسلام، كما في مسألة (الاختلاط) - مثلاً - التي ليس لها - بالمناسبة - أصل من التحريم (مستقل) في المأثور الإسلامي، وإنما تم (تبنيها) حديثاً من قبل المتشددين من منطلق أنها (قد) تفضي إلى (الخلوة)، وأصبح هذا (الأحوط) - ومثلاً مرة أخرى ولا أظن أنها ستكون الأخيرة - هو (الأساس) الفقهي الذي رفض المتشددون بناء عليه عمل المرأة في بيع المستلزمات النسائية. يقول رائد عبد الله بدير في لفتة ذكية: (إن هنالك فقهاء يتخيّرون تناول الأحكام، ولا يتناولون من كتب الفقه إلا الأحكام المتشددة، ولا يتعاطون مع أي حكم شرعي، أو رأي فقهي، فيه التيسير على الناس، وفي حالة غلبهم الدليل بوجود هذا الرأي الفقهي الذي فيه تيسير على الناس، فإنهم على الفور يتداركون بقولهم: ولكن (الأحوط) العمل على خلاف هذا الرأي! ولعل أوضح مثال لفقهاء (الأحوطيات) لدينا في المملكة رأي من يقول بتحريم قيادة المرأة السيارة من منطلق ديني. فهم لا يستطيعون التحريم مباشرة، لأن الأصل في الأمور الإباحة، ولا تحريم إلا بدليل، ولأنه يعوزهم الدليل المانع القاطع الذي لا يجدونه، تراهم يقرّون في البداية (الجواز)، ثم يضعون عبارة (الأحوط)، مع مجموعة من المبررات والمحذورات، كجسر يؤدي بهم إلى تبرير (التحريم)، فيلغون في النهاية ما قرروا في البدء جوازه. وكان الشيخ الألباني - رحمه الله - الذي لا يرى مانعاً شرعياً يمنع المرأة من قيادة السيارة ويرى - كذلك - أن الحجاب هو تحديداً غطاء الشعر وكشف الوجه، يغضب (بشدة) من هذا (التحوط) المتكلف والمصطنع، وغير المبرر، الذي دأب عليه البعض، وقد ذكر - من باب التندر والسخرية - قصة واعظ (وسيم) في بغداد، كان يضع (قناعاً) على وجهه - (يتغطى) - خشية أن يفتتن النساء به!. ولعل (ممارسة) هذا الواعظ تعتبر مثالاً جيداً ل(وعاظ الأحوطيّات). يقول الدكتور القرضاوي: (والمعروف أن الصحابة - بصفة عامة - كانوا أكثر تيسيراً من تلاميذهم من التابعين، كما أن التابعين كانوا أكثر تيسيراً ممن بعدهم. فالفقهاء في عهد الصحابة ومن بعدهم كانوا أميل إلى الأخذ بالأيسر، والذين جاءوا من بعدهم كانوا أميل إلى الأخذ ب(الأحوط)، وكلما نزلنا من عصر إلى عصر زادت كمية (الأحوطيّات)، وإذا كثرت الأحوطيات وتراكمت كونت ما يشبه الإصر والأغلال التي بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ليضعها عن الناس: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (157)سورة الأعراف. ويجب أن نتذكر، قبل أن نلجأ إلى (الأحوط) خوفاً من الوقوع في المحذور، أن التيسير على الناس، ودفع المشقة، مقصد من مقاصد الشريعة قال تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (185)سورة البقرة. والأحاديث التي تحض على اللين والتيسير والتبشير وعدم التنفير كثيرة ومشهورة، كل ما هناك ألا نبالغ في (الحيطة) والحذر، كي لا تأخذ بنا (الحيطة) مبلغاً تفرغ فيه هذا الدين من (اليسر) ونتجه به نحو (العسر) مثلما فعل (الطالبانيون).
|
|
|
| |
|