كثيراً ما وددت أن أكتب عن أمي - رحمها الله - لكنّي كنت أوثر الإرجاء بين من يود استكمال أبعاد شخصيتها - إذ توفيت ولم أتجاوز العاشرة إلا قليلاً -. وبين من لم يثق بقدراته - بعد - مهما كانت ليعطي مقام تلك الشخصية حقها. ولأنها (الأم) فلعل ملكتي يُسعفها المداد.. فيمدّني بما يوازي مقامها:
إلهي هبني بياناً أستعين به |
على قضاء حقوق (غاب) وافيها |
أو لتلك التي غابت خلف: عين التي آب النهار - بدونها - بل وبعد أن غاب معها:
ما لا يعوّضه ندب ولا يسلوه نحيب أو لا يداويه طبيب
إذ تجمع على الملكة (رؤى) تستنفرها لأكتب - لكم -: عنها.. و(الأسى) - كما قيل -: يبعث على الأسى.
.. ومما استحثني - أيضاً (مع ما يجيش في الخافق) - مواد كثيرة.. قرأتها لمن كتبوا عن أمهاتهم.
أن أكتب - لكم - عن والدتي وعن شيء مضمور لها (أو غيرةً ممن سبقني للكتابة عن أمه) لأحاكي ذلك عن (أمي) وإن كان متأخراً، فأنا أحس - وقد يشاطرني معظم القراء - أن هناك ما ليس له وقت آنٍ بحيث يربط بمناسبة أو بتاريخ مُحدد.
فإن الإنسان.. وفي أي وقت تكلم به عن والديه - أو أحدهما - لا يطلب (فيه) مناسبة.. أو داع يستدعى (شفاعة) لقبول صنيعه.
وقد يكون من كرامات هذا (التأخر): صقلاً للملكة.. بأن يكون إثراؤها عن المؤبن كاف، كي يستدرك به ما يستحق (ولو) نزراً لما يوازيه. بخاصة حال موازنته بالموجود.
ومهما حاول الكاتب أن يعرض ويستعرض بثقافته عنهما.. أو عن أحدهما - فلن يبلغ (جزءاً) مما قدّماه له. ويكفي أن الله قرن حقهما بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
وسأل رجل عمر - رضي الله عنه - وكان حاجاً بأمه مردفاً إياها على ظهره: هل أديت حقها؟ فأجابه ب:(ولا نفحة من طلقاتها) أثناء الولادة.
وهذه الأسطر - وربي -: من غصص تكاد تفيض منها نفس الحليم.. من هول (وقع) الفراق.. وهو ما شجعني لأن أكتب عن من طواها (الردى) قبل نمو مداركي:
وقبل أن ألحق لأقول:
فلم تبقى -.. ولم أجد بعد/ ذلك البلسم الشافي، والقلب الدافئ، والفؤاد الوافي.. والزلال الصافي.. إلخ.
من هنا (داعياً).. ومن ثناياه مستدعياً (الكتابة) عن تلكم: العزيزة الغالية (أمي) - وست الحبايب -:
(هيلة بنت عبدالعزيز بن عبدالمحسن المطلق (1357 - 1395) - رحمها الله رحمة واسعة -.
أود أن أحدثكم عنها رحمها الله.. هل تسمحون لي بذلك؟ وبأن أخطابها قبلكم لا تظنّي يا والدتي - وبعد العقد الثالث من غيابك -: أنك: غائبة!. إلا عن (العين)، فأنت في الزوايا والثنايا.. والحنايا التي قد تأن بكل عانٍ: أينك؟
لكنه بتلمسك، من خلال ما تركت، وما أثرت، وما به الفؤاد: ملأت.
صحيح أنني فقدتك قبل أن أبلغ الحلم فيما بدأت سنين الطفولة تتقوض، ويحل محلها الشباب والتدفق!
لكن لا ضير أن أذكر.. وقد علقت بسني عند وفاتك وكأن عمري آنذاك قد بلغ الثالثة عشر عاماً. ما أحسبه يجيز لي (الحديث)، أو ما يؤهل ذاكرتي للبث عنك.
و(أنا) رغم أني أشحذ العزيمة لكي أكتب ما أعلمه - أو ما أدركته - عنك!.
إلا أني أقر أنه (قليل) بحق: من ليس لها في الدنيا مثيل في قلبي، ولن أتكلم عن (الأم) ومقامها بالقلب، أو مكانتها بالدين، لكني سوف أكتب لكم عن شخصيتها مما أعلم عنه وأذكره بأولى سني التي ماتت تظلله بوجودها، وأدعمه ب(شهادة) ما قيل لي عنها بخاصة من قاسمها العيش (أبي..). ومن ثم زوجاته (ضرائرها)، وكذا إخوة.. وأخوات يكبرونني سناً. أو أقارب عايشوها.
(هيله):
أبدأ إيحاء من قول لابن عباس رضي الله عنه: (إن لاسم المرء منه نصيب)!
.. فهذه ال(هيله) كانت: تهل على القلب بوجودها. وتهلي بالقادم لحلها.
وتهلل بضوئها وضيائها (المعنوي) وروحها وابتسامتها.
مع ما لقي جسدها من آلام وأمراض كانت تخفيها لكي لا تشعر أحداً من حولها بذلك أو حتى تلفت نظره لشيء من هذا.. مع ما كانت تشعر به من (عذابات).
أجل. قد لا تختلف في نمطيتها عن الكثير من نظيراتها.. اللاتي كدحن بذلك العهد - والذي سبق انفتاحنا على كل ما مهد للعيش الرغيد الذي نتمتع به الآن، بما في ذلك الاعتماد في حياتها على (جيل) من الخادمات!
كانت (الأولى): (صابرة)، راضية.. تَقبل وتُقبل على ما يأتيها بصبر عجيب! فهي تروح وتغدو. دون أن يعلم جل من حولها بحالها!
وكانت (الثانية) زوجة. تقوم بأعباء الحياة - مشاركة - مع زوجها. وآل بيتها. بلا كلل أو ملل، أو تضجر.. وإن غالب المرض مرآها الظاهري، فلا تسمح، لغيرها أن يقوم بواجباتها.
وكانت (الثالثة) أم.. والأم لا يكفي مدار العبير عن وصفها.. وليس قولي بهذا.. لأني ابنها. بل لأني باشرت.. أو (وعيت) أشياء لا زالت عالقة بذهني من صنعها. إذ كانت تحضن. وتلاعب، وتداعب، وتلاطف.. و... و..
رغم الآلام التي لا يحسها أقرب قريب.. منها كأبنائها نحن.
هل تعلمون - لأمّي - مثيلاً؟!
قد يقول الكل نعم (أمهاتنا)، فأجيب: أجل. كل أم لديها كذلك ما لدى أمي لكني.. أعني من منكم عاشت أمه حياتها بين المرض والمسؤولية والصبر. أو التجمل والتحمل.. واهتمت بزوجها وأبنائها وآلها - وذويهم.. أيضاً -: حتى بلغت بهم ربوة (الاستخلاف) الحقيقي لمقامها؟
ومن منكم تكالب على والدته - ولا أتمناه لأحد منكم - .. كل تلك المعاناة والقسوة. فقابلتها ب(التجلد.. رغم ذلك. لترتقي بحياة من حولها إلى ما كانت تمني به نفسها. حتى أنها ولكأنها (جادة) بنفسها ليصل على أكتاف صحتها وصبرها وتضحياتها.. كل من حولها. بدءاً ببنيها وأنا.. أولهم -. وانتهاء بأقارب. بل.. امتد صنيعها إلى من لهم عليها حرمة (الحجاب) من آل زوجها.
إذ.. حدثني عنها أحد الأقارب - من غير المحارم لها - أنه وحين أتى من بلدته إلى الرياض. وكان يقطن في بيت الشيخ (أبي). بحثاً عن قبول بالجامعة. أنها ومن وراء الحجاب تتطلف معه.. كأخذ ملابسه لغسلها. أو تسأله عما يحتاجه، وما ينقصه؟!
بل ولا تحاول مطلقاً إظهار صنعها هذا أنه معروف منها تستحق الشكر عليه. بل تقوم بذلك بكل عفوية.. وأريحية واستحسان من نفسها وجمال روحها.
ثم.. من منكم أمه كأمي. في: جمال نفسها. فهي ذات سماحة إذ لا يمكن أن تقول (شيئاً): بفلانه. أو تشكو أو تضجر من أعباء علانه!
.. وأني - بعد - لأحسبها.. من: {َالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ}.
فهي ذات روح جميلة، لا أدعي أنها ملاك، وإن كانت بنظري كذلك.. وأهتبل إلى الله وأرجي لها: ما جاء في الصحيح عن سيد الخلق وإمام الحكماء، وخير المرسلين صلى الله عليه وسلم قوله: (إن أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً. الموطئون أكتافاً الذين يألفون ويؤلفون).
وما أثر عنها كهذا.. وغيره الكثير من (المحامد) التي نحسبها - بإذن الله - مِما كسبت.
خالد (أثرها):
وإن أنسى فلن أنسى لها - ظهريات - ذلك العهد -. وحين كان يبث عبر الأثير من إذاعة القرآن الكريم بصوت الراحل الجليل وإمام الحرم: الشيخ (عبدالله خياط) رحمة الله - بطريقة تلاوته المعهودة. وصوته المتميز. فلا تفوت - رحمها الله - تلك السجية.. وبخاصة وهي تقوم بمناشط منزلها.. وقلبها يصغي لآيات الله. فتتمتم خلفه.. بما تحفظ منها.
وإني لأحسب فعلها هذا.. مواز - في تعليمنا الذي عهدناه منها - لما طرقته.. (د. فوزية.. أبو خالد). ومما قالت:
(كانت في ختمة القرآن ضنينة بوقتها أنانية في منافستها بينها وبين نفسها، فكانت لا تبدد وقتها لتأمر أياً منّا بذلك: لأنها - على ما يبدو - كانت تؤمن بالتعليم بالممارسة أو بالمشاركة أو بالعدوى، وربما تعلم بسليقة نقية الرمز.. الذي تمثله أفعال الأم وليس فقط نصائحها أو مواعظها. فهي بطبعها لا تميل للوعظ.. وبقدر ما عرفت أمي قديرة مفحمة في الإقناع بقدر ما عرفتها ضعيفة في الوعظ..)
وكم لها - يرحمها الله - من مشاهد لم تفارق ذهني الواعي.
إذ كان بها (شهامة) قلما تلقاها، وحسن معاشرة نادرة النظير.. ظاهرة الصنيع مع ضرائرها - بخاصة - .. حدثتني إحداهن - من مقام الأمهات -:
أنها كانت وهي (جارتها) شبهها إلى كثير مما تحتاجه. بل غالباً ما تبتدرها إلى التذكير بما قد يقابل خلطتها في بيت الأسرة (الكبير). نافلة من تجربتها!
- أجل.. وأحسبه فيها قول (د. أحمد التويجري):
ويا (طيبة) من ذا رأى قبل طيبة
تسير على أقدام.. وتهيم
.. أما حنانها ودلالها علينا. فصداه لا ينسى! من قبلي - وبخاصة مفردة:
(يا جناني) التي لا.. ولم أنساها.
ولأن قيل (أبناؤنا فلذات أكبادنا) -والتي نظمها: حطان بن المعلي:
إنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
فقد كنّا عندها أغلى.. من فلذات الكبد، بل والقلب. والروح! - ف:
رعى الله أياماً بظل جنابها
سرقت بها في غفلة (البين) لذّتي
و.. لا أغالي - أنا وشقيقتي الكبرى (منيرة) وأصغرنا (فهد) - في وصفنا بهذا.. عند أمي.
... أما ما أود أن أوليه خاتمة حديثي: عن أمي فهو عن زهدها. مستشهداً بقول (ضرار الصدائي) - رحمه الله - : في علي بن أبي طالب:
(.. أُشهد الله. لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله. وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم. ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا. غري غيري، ألي تعرّضت، أم إليّ تشوقت؟ هيهات هيهات! قد باينتك - طلقتك - ثلاثاً لا رجعة فيها. فعمرك قصير. أد من قلة الزاد. وبعد السفر... إلخ).
.. أجل لقد كانت كذلك.. وبالتالي فليس حزني عليها يوازيه حزن (من ذبح واحدها في حجرها).
.. وما وجدت حالي.. أن غروبها إلا معيداً قول (مهيار الديلمي) عن قلبه:
ولا أود أن أسهب حيالها.. بخاصة عن (هذا). لأن الكلمات.. فيها, وإن انتقيت جليلها: فلن أبلغ معشار.. ما أرنو إليه، بل: (ولا: العشير. ولا عشراً من العشر)!
.. ولأن خالط (ثنايا) هذه: الشهادة في حقها بعض عاطفة، إذ هي شهادة ابن بوالدته! وقد يرد علي (أني: لم أعقل إبان حياتها - .. القصيرة - عدا بعضاً..
مما أدليت به أو شيء مما استدركت) فيكفي (شافعاً) لي شهادة الكثير ممن حدثني عنها.
مع أن ما تقدم ما هو إلا (إيجاز) مما لا أستطيع أن أبسطه، لأن قلمي لا ولن تسعفه مفردات مقابل ما تركت وبصمة ما أبقت.. حتى وإن تحذلقت عنها بجملة، أو انتقيت لها من درره!
أخيراً:
هذه.. ليست كل أمي. بل جزئية منها أهتبلها لقلمي وأبتهل ما نأى عنه مدادي، صابراً وداعياً رب (كريم) بأن يجزيها (الجزاء الأوفى).
ولا أنسى - في خضم ثنائي على والدتي - ذكر مقام الغالية وشقيقة الوالد: عمتي (نوره) التي قاسمتها معنوياً آلامها. حين أقامت معها بالمستشفى حتى توفاها الله. وقد (وعدتها) ألا تخرج من المستشفى إلا معها. تخفيفاً وتهويناً على والدتي.. وهذا من وصل وبرٍّ ووفاء.
.. فاللهم اغفر للوالدة الغالية ووالديها - وكل غالٍ علينا - ووسع مدخلها.
واجعل قبرها روضة من رياض جنات النعيم، وأنزل عليها البهجة والنور. والفسحة والسرور. واللهم ارفع درجاتها وعلِّ منزلتها. ونقها من خطاياها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم وبدلها بدار خير من دارها. وأهل خير من أهلها.. واجمعنا بها في مستقر رحمتك. مع: {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}. وارحمنا واغفر لنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه - (برحمتك يا أرحم الراحمين) {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء}
.. والحمد لله. حمد الراضي المسلم بقضاء الله، والمؤمن بأن { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}. وصلى الله وسلم على من آثر الآخرة على الأولى.
albayan62@yahoo.com |