| |
طرائف الحكم هل الثعلب مخادع والبطة هادئة؟؟ ندى الفايز
|
|
كتاب كليلة ودمنة الموضوع على لسان الحيوانات تعد حكاياته من وجهة نظري الشخصية من أروع ما تناقله الأدب العالي خاصة أنه لا يتقيد بعصر أو بيئة ويعد الكتاب حتى الآن من كنوز الأدب الهندي، ومعروف أن ابن المقفع (الذي يعد فارسي الأصل) قد نقل كتاب كليلة ودمنة من اللغة الفهلوية إلى اللغة العربية واختلفت الروايات حول طريقة الحصول عليه خاصة أن الكتاب كان من ضمن محتويات صناديق الكنوز والمجوهرات الخاصة بملوك الهند التي كانت عليها حراسة شديدة بذلك الوقت لأن الكتاب تضمن حكماً وعبراً عميقةً موضوعةً على لسان الحيوانات وهدفها تثقيف ملوك الهند بطريقة ترفيهية وسهلة التذكر والفهم لطبائع وصفات مَنْ حول ملك الغابة ونوعية وحبكة الدسائس والمؤامرات التي تُحاك وتُدبر وكذا الحكم والعبر والمواعظ المستخلصة وتم وضع كل ذلك على لسان الحيوانات بأسلوب يعد من وجهة نظري الشخصية بقمة التشوق والفخامة الأدبية، ومعروف أن اسم الكتاب يعود إلى ثعلبين شقيقين يعدان من أبطال القصص اللذين غلبت شهرتهما على بقية قصص الكتاب وعليه ومن بعدها أصبح الخداع والمراوغة من السمات التي اتصفت بها الثعالب، ومع أني أغلب وأرجح قصة السمكات الثلاث رغم تفاوت الذكاء فيما بينها، أرجحها على بقية القصص وتمنيت لهن الشهرة عوضاً عن الثعالب خاصة أني لا أخفي على القارئ الكريم الأثر الذي تركته قصة السمكات الثلاث عليَّ منذ أن قرأت الكتاب أول مرة عندما بدأت علاقتي مع الكتب التاريخية والقصص القديمة منذ الصغر. قصة السمكات الثلاث تعد من وجهة نظري قصة خلاقة حيث تقول الرواية إنهم زعموا أنه كان بغدير من الماء ثلاث سمكات: (كيسة وأكيس منها وعاجزة) وكان الغدير الذي لا يقربه أحد بجوار نهر جارٍ فسمعت السمكات الثلاث حديثاً دار بين صيادين تواعدا أن يرجعا بشباكهما بصيد السمك، فارتابت أكيس السمكات فغادرت ونجت بنفسها على الفور أما السمكة الثانية الكيسة فبقت في مكانها وتهاونت عن الرحيل فلما رأت الصياد قد أقبل بشبكة الصيد واستحال عليها الهرب قامت من النهر وطفت على وجه الماء متقلبة على ظهرها تارة وبطنها تارة فأخذها الصياد بيده دون أن يستخدم شبكة الصيد ووضعها على الأرض فهربت منه فوراً عندما كان مشغولاً بصيد السمكة الثالثة العاجزة التي وقعت في الشراك ولم تفكر بالنجاة لعجزها، كما أن بالكتاب قصة أخرى أعدها من وجهة نظري الشخصية بالمرتبة الثانية من الروعة الأدبية بعد قصة السمكات الثلاث ألا وهي قصة سيدة الحَمَام وتقول القصة إن سيدة الحَمَام ومَنْ معها من الحَمَام الجميل مروا على شرك ووقعوا فيه فأقبل الصياد فرحاً مسروراً وحاولت كل حمامة تخليص نفسها إلى أن صاحت سيدة الحَمَام: لا تتخاذلن بالمعالجة الجماعية ولا تكن نفس إحداكن أهم عليها من نفس صاحبتها ولتتعاون جميعاً ولنطير كطائر واحد فينجو بعضنا ببعض، وبالفعل وثب الحَمَام وثبةً واحدةً وعلون بالجو ولم يستطع الصياد الإمساك بهن. وعودةً إلى الثعالب الخبيثة يجدر التنويه هنا - أن الثعالب قد لطخت سمعتها بعد انتشار كتاب كليلة ودمنة وترجمته لغالبية لغات العالم، حتى بعد أن عرف بمملكة الحيوان حسب ما أوضحت الدراسات العلمية الحديثة فيما بعد - أن الثعالب هي أكثر الحيوانات المفترسة اهتماماً بتربية صغارها ولا تترك صغارها أو ترميهم في الغابة بعد أن ترضعهم أمهاتهم وتبقى معها على الدوام حتى بعد أن تعلمهم فنون الصيد بخلاف الأسد الذي قد يترك ابنه بالغابة وقد يتقابلان ولا يتعارفان إطلاقاً ومن الممكن أن يفترس أحدهما الآخر دون علمهما بعلاقة الدم التي تربطهما هذه؛ ومما أثبتته الدراسات الحديثة كذلك حول مملكة الحيوان أن البطة ليست كما نتصورها هادئة وثقيلة الحركة فعندما أنزل الباحثون والعلماء كاميرات التصوير تحت مياه الأنهار والبحيرات اتضح أن البطة مخادعة وتظهر عندما تعوم فوق سطح الماء أنها هادئة وثقيلة الحركة مع أن العكس هو الصحيح، فإذا ما نظر لما تفعله من تحركات تحت سطح الماء وكيف تحرك أرجلها بحركات سريعة ومزعجة فإنها في ذات الوقت الذي تظهر فيه لمن يشاهد حركتها فوق سطح الماء تبدو هادئة وثقيلة!! وعودة مرة أخرى إلى الثعلبين الماكرين كليلة ودمنة اللذينِ فاقت شهرتهما بقية حيوانات الغابة وما تضمنه الكتاب حول تصرفاتهما الماكرة والمخيفة، فإنه من المفيد ذكر قصة تعد محور قصص الكتاب التي بدأت تفاصيلها عندما توجس الأسد ملك الغابة من ضخامة صوت أحد الحيوانات وهو الثور وأصابه الرعب منه حتى أصبح الأسد لا يبرح مكانه ولا يتجول في الغابة كعادته حتى تبين الأمر للثعلب دمنة فذهب يتقصى عن مصدر الصوت خاصة أن للثعلب قصة طويلة للغاية مع صوت الطبل الذي سبق أن أخافه واستخلص بعدها حكمة أن أفشل الأشياء أجهزها صوتاً وأعظمها جثةً، وعليه ذهب دون خوف لمواجهة الثور وعرف طبائعه فاطمأن وطمأن الأسد خاصة بعد ما وجد أن الثور الضخم صاحب الصوت الجهور من الحيوانات التي تأكل الأعشاب (لا) اللحوم، وبعدها قام الأسد بتقريب الثور (شتريه) إليه وجعله من جلسائه الأساسيين في مجلس ملك الغابة الأمر الذي أثار الغيرة والحسد والبغي عند الثعلب خاصة أنه فقد مكانته عند الأسد ولم يعد من ذوي الحظوة والمكانة في مجلسه وعندها انطلق بجنون ورغبة جامحة بالتدمير وقرر بدهاء وخبث شديد النيل من الثور المؤدب الذي كان حسن النية مع الجميع ومن هنا لطخت سمعة الثعلب من بعده ووصفت بالمكر والخبث ووصف الثور بالغباء، خاصة بعد أن أوقع الثعلب بين الأسد والثور بطريقة ماكرة وخبيثة عندما ذهب للثور وقال له إنه سمع الأسد يقول إنه معجب بلحم الثور خاصة بعد أن سمن ويريد أن يأكله ويطعم رفاقه السباع منه، الأمر الذي أدخل الفزع بنفسية الثور وذهب الثعلب إلى الأسد وقال له إن الثور يقول إنه الأحق بملك الغابة وأخذ يقلب الحيوانات ضده تمهيداً للإطاحة بالأسد!! ولكن الأسد لم يصدقه في البداية ومن مكر الثعلب قال للأسد لو رأيت عيون الثور خائفة وهيئته مرتبكة وبدأ يعتذر عن حضور مجلسك والتحدث معك فهذا دليل على صحة الخبر وبالفعل بدأ الثور يعتذر ويتهرب من الأسد حتى أصر على مقابلته وعندما دخل الثور على الأسد كان خائفاً ومرتبكاً أن يأكله على العشاء بتلك الليلة والأسد عندما رأى هيئته متغيرة تسرع وهجم عليه حتى قتله، وندم الأسد ندماً شديداً بعدها ودخلت أم الأسد تعطي ابنها الحكم والمواعظ خاصة بعد أن افتقد أنيسه وجليسه الثور الذي ما كان عليه أن يتسرع ويقتله قبل أن يتأكد من صحة أخبار الثعلب الماكر الذي كان بنفس الوقت يحدث أخيه الثعلب الماكر الآخر عن الكيفية التي مكر بها على الأسد وجعلته يقتل الثور ويسترجع مكانته في مجلس ملك الغابة، فسمع النمر تلك المحادثة الهامسة بين الثعلبين وذهب على جناح السرعة ودخل على الأسد في خلوته وأخبره وقرر عندها الأسد أن يقتل الثعلب نتيجة فعلته، وعندما دخل عليه الثعلب الماكر وواجهه بحقيقة افتضاح أمره وعزمه على قتله هنا أجاب الثعلب بمكر شديد: لا تقع يا سيدي الأسد في إثم القتل حتى لا تندم مثلما قتلت الثور وندمت على ذلك وقد يكون مَنْ قال لك عني تلك الأخبار يريد أن يتخلص مني بالمكيدة والدسيسة، وعليه فقد نجا الثعلب الماكر بفعلته ولم يقتله الأسد الذي جلس بعدها وحيداً لفترة طويلة دون صديق مخلص وحكيم حتى وجد ضالته في ابن آوى بعد أن سمع عن أخبار تزهده عن الإضرار بالحيوانات الضعيفة ومخاصمة كل السباع بالغابة لابن آوى، وعليه فقد طلبه الأسد وعرض عليه صداقته فرفضها ابن آوى بشدة خشية أن تسبب له المشاكل وتحرش وتجر بقية الحيوانات عليه بالمكيدة والدسيسة ضده بالغابة نتيجة الحسد والبغي الذي سوف يترتب على تلك الصداقة، غير أن الأسد أصر على صداقته ووعده بأن لا يسمع من أحد وأن يخبره عن كل ما يُحاك ضده بالتفصيل وعليه قبل ابن آوى، ومع ذلك ففي يوم من الأيام خبأ الأسد كمية من اللحم حتى يأكلها فيما بعد، فأخذتها السباع ووضعتها في بيت ابن اوى وعندما سأل الأسد عن اللحم أخبرته السباع أن ابن اوى سرقها لنفسه وهي مخبئة في بيته وأرسل مَنْ يبحث فوجدها بالفعل في بيته وأرسل له رسولاً يسأله فكذب على لسانه ونقل للأسد ما لم يقله صديقه ابن اوى وعليه قرر الأسد قتله غير أن والدة الأسد تدخلت في الأمر فوراً كعادتها وأخذت تنصح ابنها الأسد ملك الغابة وتقدم له النصائح والحكم كما في أغلب قصص الكتاب وفي تلك الأثناء دخل النمر مسرعاً على الأسد وأخبره أن ما حدث كان مكيدة مدبرة من السباع ضد ابن أوى المظلوم!! وخروجاً عن قصص الثعالب الماكرة التي تملأ صفحات الكتاب بالدسائس والمكائد الشريرة هناك قصة لأحد القرود أعجبتني للغاية وأريد أن أوردها وتتلخص أن زعيم القرود بعد أن مرض ووثب عليه قرد آخر وانتزع منه الزعامة فقد فضل أن يغادر مملكة القرود واتخذ من فرع شجرة مقراً له وجلس فيها وحيداً ومنها جاء المثل الشعبي (قرد قطع) والمقصود به القرد المقطوع رغم أن عادة القرود ألا تنقطع أبداً عن بقية القرود، وكان تحت تلك الشجرة التي اتخذها مقراً نهرٌ وكان يرمي بالثمار فيه ويطرب للصوت الذي تحدثه عندما ترتطم الثمار بماء النهر الذي كان فيه غيلم والمقصود به ذكر السلحفاة البحرية فتصور أن القرد يرمي بالثمار ليطعمه فكوَّن معه صداقة حتى أنه كان يقضي الليل يتسامر مع القرد حتى غارت زوجته السلحفاة البحرية وتظاهرت بالمرض وأوصت طبيب السلاحف البحرية بأن يقول لزوجها إنها لن تشفى سوى بعد أن يحضر لها زوجها قلب قرد من فصيلة ملوك القرود وبعد طول تفكير وتردد قرر السلحف البحري الغدر بصاحبه حتى ينجي زوجته من الموت، وذهب إلى قرد قطع (القرد المقطوع) وزعم أنه يريد استضافته في حفلة على الجانب الآخر من النهر وعليه أن يركب فوق ظهره للوصول إلى هناك، وبالفعل ركب القرد وكان كل شيء سوف يمشي كما خططت له السلاحف غير أن فطنة القرد وذكاءه جعلتاه لا يتردد من الحرج والمبادرة بالسؤال دون تردد عن سبب هدوء وسكون السلحف على غير عادته وأخذ القرد يتفقد الأمر بحزم فوراً عن ذلك التحول حتى وقع السلحف وأجاب أن زوجته مريضة وتحتاج إلى قلب قرد حتى تنجو من الموت وعندها زعم القرد أنه ترك قلبه فوق الشجرة ويريد من السلحف أن يعود به فوراً حتى يعطيه لزوجته وفرح السلحف لذلك فرحاً شديداً إذ إنه لن يقوم بقتل القرد وصدق أن القرود تخرج قلبها وترجعه وبعد أن صعد القرد إلى الشجرة نادى السلحف على القرد حتى يعودا إلى مملكة السلاحف بقلبه وعندها ضحك القرد وأخبر السلحف وهل تحسبني مثل الحمار الذي عاد مرة أخرى إلى الأسد ملك الغابة بعد أن نجا منه بالمرة الأولى وعندها سأل السلحف: وما قصة ذلك الحمار؟؟ وبالطبع لن أستطيع الاستمرار بسرد القصة تلو القصة حسب تسلسل الكتاب الذي لا ينتهي من قصة إلا بذكر أخرى وما يتبعها من حكم ومواعظ وهكذا.. والذي أراه من وجهة نظر شخصية أن هناك توازناً إستراتيجياً عميقاً بالقصص وفي البيئة التي حول الأسد ساعدته على نجاحه واستمراره من أهمها والدة الأسد الحكيمة والطيبة التي كانت تقوي عروق ابنها الأسد من حين لآخر وترسي نفسيته بطريقة بسيطة وعفوية رغم أنها لا تدري خلفيات الدسائس بالغابة الأمر الذي يقابله توازن إستراتيجي آخر وهو وجود النمر الفطن الذي يتقصى الحقائق في الغابة وكذا بالغابات المجاورة ويرصد حتى الهمسات ويتحرى صدقها ومن ثم يسارع فوراً للدخول على الأسد أينما كان حتى فعل خلوته ويخبره بلحظتها فوراً دون تأخير عما يدور من أحاديث حتى الهمسات منها ولعل النمر هنا يجسد دور مراكز المعلومات بشكلها الفعَّال بالغابة، وقد يفضل أو يميل غيري إلى شخصيات أخرى لكن (لا) أتصور أن منكم من سوف يعجب بشخصية الثعلب الشرير التي كان لا بد من إبعادها فوراً ومنذ البداية من البيئة لما تحدثه من أضرار جسيمة كما لا أتصور أن أحداً سوف يعجب بالثور المفزوع أو حتى الحمار الغبي، وقد أعجبت صديقتي الصدوقة عندما قرأت مسودة هذا المقال بشخصية ابن آوى والبطة التي تعمل من تحت الماء كل شيء ولا تظهر أي شيء على السطح!! وقطعاً لم يبقَ للتذكير قبل ختم المقال سوى.. أن القصص تتضمن نصائح حكيمة وطرقاً راقيةً (لا) مجال إلى سردها بالمقال إذ إنني اكتفيت بسرد القصص بصورة رمزية ويبقى من الأهمية قراءة الحكم والكثير من المواعظ الموضوعة على لسان الحيوانات وخاصة والدة الأسد التي أعجبت بها كثيراً هي والنمر الفطن الذي يلعب دوراً محورياً وإستراتيجياً يضمن للغابة استقرارها وللأسد بعد النظر الكافي ومعرفة تقاطعات وخلفيات كافة الأمور، وعليه أختم المقال بهذه القصة الجميلة رغم قدمها، التي تؤكد على أنه في إحدى المرات أوقع الثعلب الماكر الأسد في حفرة عميقة كان قد حفرها بالمكان الذي اعتاد الأسد على المرور به وفرح الثعلب بذلك فرحاً شديداً وقال للأسد بحماس منقطع النظير: سوف أذهب وأنادي على جميع حيوانات الغابة حتى يشاهدوا الأسد وكيف وقع في الحفرة، عندها نظر الأسد بكبرياء وشموخ وقال للثعلب: لن ينفعك ذلك بشيء، سوف أظل (أنا) الأسد ملك الغابة وسوف تظل (أنت) الثعلب المكار الذي أوقعتني بالحفرة مكراً وغدراً ولن يتغير شيء من أوضاعنا أو أوضاع الغابة، فأسرع بالذهاب ونادِ على جميع حيوانات الغابة حتى تثبت مكرك وغدرك أيها الثعلب الخبيث، وعندما ذهب الثعلب للغابة وقع بحفرة أكبر من تلك التي حفرها للأسد الذي خرج منها بعد أن قام النمر بمساعدته في اللحظة الأخيرة رغم الخلاف الكبير الذي كان قد نشب بينهما بعد أن رفض الأسد السماع لنصائح ومعلومات النمر حتى لا يُقال بالغابة إن النمر أفهم وأعلم من الأسد وهو المتحكم الفعلي به وبالغابة، وبعدها وإلى يومنا هذا باتت سيرة الأسود والنمور في القصص والروايات في تصاعد ومن أعلى إلى أعلى، أما الثعالب فسيرتهم في تدنٍ ومن أسفل إلى أسفل حتى وصلت إلى الحضيض؛ وهنا نحن إلى الآن نضرب بالثعالب الشريرة الأمثال في المكر والخبث!!!
nada@journalist.com |
|
|
| |
|