| |
الناتو.. أحاديث عن متاعب القوة عبد الله بشارة
|
|
في يوم طويل مملوء بالخُطب والمداخلات والانتقادات، ومن قاعة مزدحمة بالمشاركين من مدنيين وعسكريين، باحثين ومحترفين وإعلاميين.. شهدت قاعة الراية اجتماع الناتو في الكويت بحضور ضيوف من دول مجلس التعاون، وبترتيبات جيدة، حيث جاء عدد كبير من مسؤولي الناتو يترأسهم السكرتير العام للناتو، مع مساعديه وسفراء 26 دولة عضواً في الحلف.. كل ذلك من أجل ترسيخ خطوة هامة في العلاقات بين الناتو ودول مجلس التعاون، بعد أن خرج الناتو من قيود الجغرافية الأوروبية وبدأ الانفتاح على دول الجوار في حوض البحر الأبيض، ومنها فتح نافذة الإطلال على الشأن الخليجي. هكذا جاء مدخل الناتو إلى الكويت التي استعدت جيداً لهذه المناسبة، على مستوى المشاركة وكذلك على مستوى الإسهام الفكري والسياسي. ويمكن أن أُبدي بعض الملاحظات عن هذا اللقاء الهام: أولاً: جاء الناتو مزهواً بعد انتصاره في الحرب الباردة، بعد أن عجز الاتحاد السوفيتي عن مجاراة الحلف الخصم في حيويته وفي ميزانيته وفي عقيدته، وانهار الدب الروسي أمام صلابة الأسد الأوروبي - الأمريكي، الأمر الذي وفر للناتو الاهتمام بالقضايا الأخرى المجاورة له جغرافياً، أو تلك القضايا التي لها أبعاد دولية وتهمه مباشرة مثل آفة الإرهاب، وتحرك نحو دول الجوار في البحر المتوسط ومنها إلى اسطنبول، حيث تمَّ الاتفاق على وضع قواعد العلاقات مع دول مجلس التعاون. وجوهر تجربة الناتو أن القوة هي العمود الفقري للبقاء، وأن الاستعداد للحرب هو الضمان للسلام، وأن الردع هو سياج الاستقرار، وأن الجوار الأيدولوجي مصدر الخطر، وأن الأولوية للدفاع عن آدمية الإنسان وديمقراطيته وإبداعه، وأن القوة لها متاعب في توفير الجاهزية الدائمة، وأن العالم - القديم جداً والقديم والحديث، لا يختلف في تطوُّره في نزعة التسيُّد والسيطرة الكامنة دائمة عند الطموح البشري. ليس المهم أن يقول السكرتير العام للناتو هذا الموجز، وإنما يكفي أن يطغى واقع الناتو على أجواء المؤتمر. ثانياً: أعدت الكويت نفسها جيداً لهذا اللقاء غير المسبوق، مستخلصة من تجربتها مع الغزو، فجاءت مداخلات سمو رئيس الوزراء، ود. الشيخ محمد صباح السالم، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، والشيخ أحمد الفهد الأحمد الصباح رئيس جهاز الأمن الوطني، ترجمة لواقع الكويت، ومعاناتها من ظلم الجغرافيا ومن تطاول الجيران ومن إزعاجات أيدولوجيات الجوار، ومن الابتزاز القومي والعروبي ممثَّلاً في البعث العراقي، ومن شحنات التصدير الراديكالية من الجوار الإيراني. كنت أستمع إلى خطاب سمو الشيخ ناصر المحمد رئيس الوزراء، وكذلك كلمة وزير الخارجية وكلمة رئيس الجهاز الوطني، مرتاحاً ومؤيداً لأن القيادة الكويتية واعية ومقدِّرة لحقوق غلاظة القوة، ومدركة لمتاعب الضعف، وعارفة بأن الكويت المستقلة المتوهجة هي خليط بين القوة الخشنة ورِقة الدبلوماسية، ومستخلصة آلام التجربة الماضية، التي تعايشت فيها الكويت مع الدبلوماسية الصافية بين الفترة من الستينيات حتى آخر الثمانينيات، التي شجَّعت طموحات صدام حسين على الغزو، اقتناعاً منه بغياب الرادع الذي يحمي الكويت. تاريخ الكويت هو آلام من الجيران ورادع من بريطانيا من الفترة 1899 حتى 1968، بعدها تلاشى ذلك الرادع العراقي، فاتجهت الكويت، تعويضاً - بالتعايش مع الرادع الأخلاقي والساتر العربي الجماعي، وكلها آليات من سلم القيم والتهذيب، وهي آليات موسيقية سياسية، بَنت عليها الكويت منظومتها الدفاعية في وسط الجوار المتوحش.. ويمكن لهذه الآليات أن تنتعش عندما يكون الجوار الدنمارك أو لكسمبورج، ولأن جوار الكويت يختلف فقد جاء الغزو ليفضح وهن الآليات ورخوة القيم وضعف سلمها المعنوي، ونجد بعد ذلك بأن المواقف الكويتية التي وصلت إلى أهل الناتو هي الدروس التي أخذناها من واقع الغزو، وأبرزها درس الردع الأمني المرتكز على ذراع عسكرية مخيفة، ويتحقق ذلك من خلال التحالف الأمني القائم على التقاء المصالح وتداخل العلاقات مع الأسرة العالمية. ودور الناتو ليس إرسال قوات إلى الكويت، وإنما دوره هو التفاهم مع دول الخليج وفي طليعتها الكويت حول تبادل المعلومات وتوحيد المواقف تجاه قائمة التهديدات الكونية مثل الإرهاب والكوارث الأيدولوجية المهددة، والاستفادة من الذخيرة الهائلة التي يملكها حلف الناتو من تجاربه مع التهديدات العسكرية الدائمة من الجوار السوفيتي الشيوعي. ويمكن للناتو أن يطلع على التجارب التي يمارسها مجلس التعاون في توحيد البناء الذاتي العسكري وزيادة فعاليته الرادعة. ثالثاً: مع تداخلات مصالح الأسرة العالمية كحصيلة لثورة التكنولوجيا والاتصالات والمواصلات مع اتساع حركة التبادل البشري والتجاري والنقدي، برزت الضرورة في تكريس الاستقرار العالمي حماية للمصالح ولخطوط التجارة العالمية خصوصاً في الممرات المائية الدولية وأهمية حماية منابع النفط. وقد استمع ممثلو الناتو إلى أهمية إظهار دور الناتو، في تأكيد استقرار دول مجلس التعاون، لأنها منبع الطاقة النادر الذي يحتاجه العالم، والذي تعتمد على استقراره سلامة الاقتصاد العالمي، فالواقع الخليجي الإستراتيجي يفرض المشاركة الدولية في استقرار دول مجلس التعاون، وليس من الحكمة حصر المسؤولية الأمنية في مشاركة الولايات المتحدة فقط، والاكتفاء بالدعم المعنوي والسياسي، الذي لا يرقى إلى حقائق مستوى المصالح الأوربية في الخليج. وقد جاءت هذه الرسالة إلى الناتو من داخل القاعة وخارجها في الأحاديث الجانبية بين المشاركين. ومن أهم النقاط التي أثارت الاهتمام في المداخلات هي واقع الناتو بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال الحرب الباردة، وما هي الهوية الجديدة للحلف في الفصل الجديد من حياته؟.. تقول السفيرة الأمريكية المعتمدة لدى الحلف بأن الأولويات هي الإرهاب وتطويق انتشار أسلحة الدمار الشامل وما تتطلبه من تعاون في أمن الحدود البحرية والبرية والجوية، بما فيها المناورات المشتركة مع الكويت وغيرها من الدول المؤهلة، والتعاون في نطاق المجتمع الأمني الآمن والمستقر، مع تعميق الحوار السياسي لتقريب وجهات النظر والمواقف. يظل الناتو - مؤسسة عسكرية خشنة ورادعة، تُوظِّف القوة لحماية المصالح، وكذلك لتوسيع دوائر النفوذ والامتيازات، مع إضافات جديدة بسبب التبدُّلات الكونية السياسية والإستراتيجية، بعد تفشي الإرهاب والطموح نحو أسلحة الدمار الشامل وغيرها من آليات الإضرار باستقرار وازدهار الأسرة العالمية. وكما يقول ميكافيللي في الكتاب المشهور (الأمير): (علينا أن نتعلَّم الطبيعتين الإنسانية والحيوانية، نظام القانون ونظام القوة وأن أحدهما لا يمكن أن يعيش بدون الآخر). هذه رسالة أهل الخليج الذين يجاورون إقليم التوتر والإزعاج، ولا علاج له إلا أن نبني بيدٍ ونشهر السلاح بيدٍ ثانية، كما يقول ضيف الكويت ثروت عكاشة في حفل تكريمه يوم الأربعاء الماضي:
(نمتشق السيف والقلم معاً على مسرح الدنيا المملوء بالتهديد والوعيد).
Abdullah_bishara@ yahoo.com |
|
|
| |
|