| |
المخالفون والمختلفون بين الضلوع .. والاختلاق.. 1 - 2 د. حسن بن فهد الهويمل
|
|
ما أخطُّه بيميني من قبل، ومن بعد، لا أخصُّ به أهل قرية، ولا جيل فترة، ولا أشياع نحلة، ولا أتباع ملّة. فالكاتب الاستشرافي، لا يحدُّه إقليم، ولا تأطره فكرة، ولا تستأثر به فترة، ولا يشغله معيِّن. كما أنّ فساد الرأي لا يحتكره زمان ولا مكان، ولا يختص به إنسان. ولو ضربنا مثلاً بمجتمع المهاجرين والأنصار، لوجدناه معكَّر الصفو بشرذمة قليلة من اليهود والمنافقين، الأشد عداوة، والأسفل دركاً. والفتن الكبرى بدأت بمقتل (عمر) و(عثمان)، واقتتال (علي) و(معاوية) وما من زمان إلاّ وفيه القاعدون للمستقيمين للتضليل والتوهين. ومن نثر بنات أفكاره في المفازات المسبعة، ثم غفل أو تغافل عنها، ثقة بها أو بنفسه، تولّى رعيها المضلّون. وما أكثر الذين ادَّاركوا في الهلكة، ولم يفيقوا إلاّ بعد فوات الأوان. والبون شاسع بين الحصافة المُعْتِقة، والصفاقة الموبقة. وما ألقى في التهلكة إلاّ اشتغال الأحداث غير أولي المعرفة بقضايا الأُمّة المصيرية، تذرُّعاً بحق التفكير والتعبير والاجتهاد، وإلاَّ استخفاف أولي المعرفة والتجربة بما يجري من تجاذب لأطراف القضايا الحساسة، وإلاَّ تصدر من دونهم للتصدِّي للمخالف والمختلف. وذلك كله أو بعضه يفتح ثغرات ينسل منها الغزاة والمتآمرون، لاغتصاب كل الحق، والمصالحة على بعضه، والمباهات بهذا التنازل المفترى، وبتلك الأريحية المزيفة. ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يسمع إشادة المغلوب بالغالب، واستقباله في الشأن كله، وكأنّه البيت الذي رفع إبراهيم قواعده. والعلماء والمفكِّرون والكتّاب المريبون والمرتابون والمربكون والمُرْبون زكاءً وذكاءً وسعهم فضاء العروبة والإسلام، عبر تاريخه الطويل، وتقلُّباته الطقسية، وإن استشرت في بعض فتراته مواجهات دامية أزَّتها الأهواء والدسائس. وأولى الناس بالأخذ على الأيدي الآثمة الأقربون زماناً ومكاناً، ممن يثيرون الارتياب، ويمكنون للأعداء من الرقاب، ولا يكفون الغيبة عن أنفسهم بما يأتون، وما يذرون من الأشياء الأكثر حساسية، والأقوى إثارة للرأي العام، والأشد تأثيراً على مسيرة الأُمّة. وداء المربكين من مقروئهم الفكري الملوث، ومن فهمهم السقيم، ومن قابليتهم للتبعية، وافتقارهم إلى التأصيل الأصولي، والتأسيس المعرفي، ومن جهلهم بنواقض الإيمان، وبما علم من الدين بالضرورة، وبمبلغهم من العلم. ومن جهل نفسه فهو لما سواها أجهل. ودرك الشقاء في اضطراب المفاهيم، والتياث الأفكار، وبطر الحق، وغمط الأكفاء، والولوغ في الأعراض دون وازع. وليس للاختلاف المحتمل، ولا للاجتهاد المشروع، ولا للاختيار السليم دورٌ في التنازع والتدابر. فالاختلاف حول الأشياء الحسية والمعنوية حتم لا مفرَّ منه، ولهذا خُلق البشر، فالعقول متفاوتة، والنصوص حمَّالة، والنوازل مربكة، ومن تصوَّر أنّه قادر على اجتثاث الالتياث، وجمع الناس على كلمة سواء، فقد جهل سنَّة الله في خلقه. وكيف يتأتّى الوفاق والشيطان من المنْظَرِين، وله من الإمكانيات ما يجعله يجري من ابن آدم مجرى الدم، وله من الأعوان النفس الأمّارة بالسوء، وله من القوة ما يمكنه من الاحتناك والاجتيال، والقعود لضحاياه كل مرصد، فيما قضى الأنبياء نحبهم في عنفوان الشباب، أو في مطلع الكهولة. وما كان الاختلاف مصدر قلق ولا عداوة عند المتبحرين والمجربين وكبار الأئمة والمصلحين، فالكون كله بأحيائه وأمواته يقتات حيويته، ويستمد طاقته من الاختلاف المشروع. وإشكالية المتسطّحين والمبتدئين أنّهم يربطون بين الاختلاف والعداوة، ويقطعون بأنّ الفشل قرين التباين في وجهات النظر، مع أنّهم يردِّدون ببلاهة معتّقةٍ مقولة: (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية)، وبعض الكتبة حدي وآحدي يحتكر الحق والحقيقة. فالمخالف عنده كمن يخرق السفينة، وهو في ظل هذا المفهوم التسلُّطي، يحتم التخطِّي إلى الفعْل الناجز لأطر المخالف على ما يرى، لكيلا تغرق السفينة. وما من عاقل يقطع باحتكار الحقيقة، إلاّ فيما يعززه دليل برهاني قطعيّ الدلالة والثبوت مما أجمعت عليه الأُمّة وتلقّته بالقبول، واليقين أنّ كلّ متحمِّس ليس محقاً بالضرورة، وكم من مضل يخادع قومه، مدّعياً أنّه يهديهم سبيل الرشاد، ولو وعينا مكر (فرعون) ومناصحة (ملكة سبأ) لمن حولهما، لعرفنا تفاوت المتصدرين للقول، وبراعتهم في المخادعة والادعاء. ومن إشكاليات المشاهد الفكرية والسياسية أنّ الاختلاف فيها مؤذن بمواجهات دامية تقتل الجسد، أو ترهق السمعة. فالذين يتصدّرون المشاهد تلعب في رؤوسهم معضلة الثنائيات، حتى لا يكون بإمكانهم تحقيق الوسطية، ولو عرفوا أنّ فوق كلِّ ذي علم عليم لكان أن تحرّوا الحق والتمسوه من مصادره، ووسعوا المفضول والفاضل والأفضل، وعدلوا عن الثنائيات إلى رحاب الدرجات والدركات، فالقطعيات تحرم الظواهر مزيد الإضافات، والحديات تحبس الأفكار في زوايا ضيقة، تفوِّت عليها فرصة التحسُّس عن أفضل الأشياء، ومن تصوّر أنّه المصدر والمورد في الشأن كله، فقد صادر المعرفة، وأيقظ الفتنة. وما التناوش بالأيدي أو التراشق ببذيء الكلام إلاّ مؤشر فشل ذريع في إدارة الحوار الحضاري. ومن أراد لأُمّته الخير فعليه أن يمنحها أوسع مساحة للحوار، وأنْ يؤجل القطيعة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. والمنقب في طيات السير تسوؤه محطات مأزومة، بلغت فيها الحال حداً لا يطاق، عُذِّب فيها العلماء، وشرد المفكرون، واغتيلت حرية التفكير والتعبير، وحُمل الناس على مذهب مفضول، فسق فيه العقل عن أمر ربه، وأصبح الاتهام الناجز الجاهز مخرج المغلوبين بالحق الأبلج، ويكفي استعراض (محنة الأحمدين). والمتعقب للتاريخ الفكري القديم والحديث، يكاد يقطع بأنّ كلّ مفكر مسه طائف من الاتهامات، وأثقله الخصوم بالتجريح، فيما جلب له الأنصار محاسن غيره. وكتب المناقب والمثالب مؤشر اضطراب في الأحكام، واندفاع في التزكية أو الاتهام. والإشكالية أن بعض الفترات الفكرية تمر بالمثالب والمناقب على أنّها مسلّمات لا شية فيها، وقد يُمِرونها كما جاءت، وكأنّها آيات الوعيد. وتعاقب المذعنين للواقع التاريخي، وتناقله عبر الحقب، لا ينفي قيام المتخصصين بنقد الرجال بمهمات التصحيح والتمحيص، وصد التحامل، ونقد الأقران، والطعن بغير حق. ولكن تلك الجهود تضيع وسط ضجيج التحزُّب والتعصب والإيجاف بالقلم واللسان. وإذ لا نعترض على ذكر المحاسن والمساوئ، متى دعت الحاجة، فإننا لا نريد للشنآن أن يتحكَّم في المشاهد. و(نقد الرجال) في الفكر الإسلامي يشكل نظرية محددة بالضابط البين، والمنهج السليم: كالمعرفة التامة بالأحوال، والإنصاف في الأحكام، ونبذ التعصُّب المذهبي، والاعتدال في النقد، والأخذ به عند قيام الحاجة إليه، والتحفُّظ عند جهل العين والحال، وعدم التشدد والتحامل على الخصم، وتوخي الإجمال في القول، وتفادي المحاباة في التزكية. ومن أخطر المواقف التي يمر بها علماء الجرح والتعديل التعارض القوي بين الاتهام والتزكية، وتحكم التعصُّب في الترجيح بين الحكمين المتعارضين. وأخطر من ذلك كله مجيء الطعن من ثقة لا يتوقع منه التسرع، أو في حق ثقة لا يتصوّر منه الجنوح عن جادة الصواب. ومعترك الأقران وجوف الفراء يكمن في علم الجرح والتعديل عند المحدِّثين، ومربط الخطورة في تأرجح الدليل بين القطْع في الثبوت والاحتمال، ووقوع ذلك التنازع في المصدر التشريعي الثاني مجال أرحب لاحتمال الاختلاف. حتى لقد ظهرت طائفة (القرآنيين) مبررة تخلِّيها عن المصدر التشريعي الثاني بحسم الاختلاف حول حجية السنّة، وهي فرقة ضالة تقصّى تاريخها وانحرافاتها الأستاذ (خادم حسين إلهي بخش) في كتابه (القرآنيون وشبهاتهم حول السنّة)، وقد جنح لهذه الطائفة الضالة أحد القادة الثوريين، وسايره بعض المرتزقة مما أحدث بلبلة في الفكر المعاصر. وفي ضوء التوثيق والتضعيف مس بعض الأئمة قرح الجرح، كالإمام المتميز (أبي حنيفة) و(البغدادي) ربما كان الأكثر تحاملاً عليه، ومن ثم ألَّبه (الكوثري) المتعصب إلى حد التشنُّج. ولقد قيل: إن ما في الترجمة من تجريح مدسوس على التاريخ. وحين خمدت المشكلة، أحياها إمام المحدِّثين المعاصر (الألباني) نكاية بالأحناف وموقفهم من أهل الحديث، وفي بعض ذلك لغط أضاع الجهد والوقت، وفرّق الكلمة. وتبادل الاتهامات بين الفرقاء والفرق جاء في وقت مبكر، ولكل فترة قضاياها الأكثر حضوراً والأشد حساسية. ونحن بهذه التحفُّظات لسنا دعاة لتمييع الإسلام وقبول المخالف لما عرف من الدين بالضرورة، ولسنا مع ترك الحبل على الغارب واختلاط الحابل بالنابل، ولكننا نجنح إلى السلام من خلال التحري والتثبُّت، والدفع بالتي هي أحسن، والإصاخة لأمر الله {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ولا بدّ في هذه الظروف الأصعب من معرفة واقع الأُمّة والانطلاق منه، لكيلا يؤدي الاختلاف إلى وهن الأُمّة وتفرّق كلمتها، وإلاّ فنحن لا نستبعد الفسوق والعصيان، وثقافة الضرار، والفرار من الزحف دون تحيُّز أو تحرف، كما لا نستبعد موجة الإلحاد والردّة. وكل مرحلة تاريخية تتميّز بظواهر، تختفي بمضي تلك المرحلة، ولا يعني الظهور والاختفاء شيئاً بالنسبة للثبات والصحة، وقد تتعدّد الظواهر وتتوحّد المفاهيم والمقاصد.
|
|
|
| |
|