5- الدعوة والحث على العلم:
يتصور البعض نتيجة لسوء الفهم بأن العلم والتعلم قد يتقاطع مع الورع والتدين، وهذا الالتباس الناجم عن تشويش وارتباك في قراءة المعطيات بحس عميق ووعي حصيفن ناشئ من المبالغة في التوجس، والخوف غير المبرر من تقلص الحيز، أو بالأحرى التأثير. فالمولى تبارك وتعالى قال في كتابه: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، والعلماء ورثة الأنبياء، وطرق العلوم بمختلف تخصصاتها وفروعها لن يؤثر في الوضع المتسق مع الرؤية المتكاملة لمعاني وأهداف الدين النبيلة، بل إن طلب العلم حث عليه الدين، وسعة الاطلاع والاستزادة المعرفية تعززان من دفع هذه المسيرة المباركة نحو آفاق الإحاطة بمكنونات الفوائد المختلفة. ففي مجال الطب والتداوي بلغت الآفاق المعرفية بهذا الصدد شأواً عالياً في التخفيف من المعاناة والآلام، وهكذا بقية الفروع الأخرى، في حين أن البعض في خضم ضعف التصور اللائق، يخالجهم هذا الارتباك والاهتزاز كون هذه العلوم، أو جلها قد صدرت عن بيئة غير مسلمة.
وفي هذا قطعاً مجافاة للواقع، ومجانبة للصواب، بل إنها قد تسهم في إضعاف الثقة بهذا المنوال. وهذا أخطر ما في الأمر إن لم يكن الأخطر، فمن المعلوم أن العلوم المختلفة لا يستقر مصدرها، فتنتقل من أمة إلى أخرى، ومن فئة إلى أخرى عطفاً على توافر الأدوات المحفزة لتحصيل هذا العلم أو ذاك. من هذا المنطلق فإن التحفيز للأخذ بالعلوم وتعلمها والعمل بها من صميم الدعوة، والأسس الثابتة لا يمكن أن تتأثر. ودور القيم ترسيخ القناعات بأساليب تنحو إلى سعادة البشر، فإلى جانب شحذ النفوس للاستقرار الوجداني المنبثق من عمق الدلالات الموضحة لهذا الأمر، فإن العلوم بشتى أنواعها لم تكن ولن تكون يوماً من الأيام متقاطعة مع أهداف الدين القيم، بيد أن الطلب هنا يتمحور في كيفية التعاطي مع هذه العلوم، وفق سياقات متوازنة. فالمشرط قد يستخدم للتطبيب وللتجريح. وتقارب المفهوم الدعوي مع الجانب العلمي، يكمن في تحديد الآثار السلبية للمواد العلمية وتجنبها حفظاً للأمانة وأداء للواجب، والأخذ بالفوائد ومسبباتها، وترك ما دون ذلك على جميع الأوجه. وينبغي التسليم بأن العقل والمنطق يفرضان تطويع العلم لخدمة المبادئ وليس العكس فيما يشمل تطويع المبدأ لخدمة العلم انتهاكاً خطيراً، وتجاوزاً جللاً، فأمور الخلق والخوض في تعديلها من جينات وراثية يعتبر عبثاً مهلكاً ونذيراً بوقوع أشد العقاب من المولى عز وجل القائل في محكم التنزيل: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. ولم تهلك الأمم إلا بتخليها عن القيم الأخلاقية الكفيلة بصيانة عقل الإنسان، وحفظ كرامته كما كره الخالق بالعقل لتحديد الصواب والخطأ وتجنب الأسباب المؤدية للهلاك القيمي،
فإذا طغى الجانب المادي على الجانب الأخلاقي فإن ذلك مدعاة لتهتك القيم واستدراج الشرور بسوء تقدير الأمور.