| |
تكرار أداء فريضة الحج .. بين الوجاهة الاجتماعية والمقاصد الشرعية
|
|
* كتب - مندوب (الجزيرة): يحرص بعض المسلمين على تكرار الحج أكثر من مرة، بل هناك من يرفع شعار الحج كل عام، مهما كانت الأسباب، دون النظر إلى أن الحج فريضة على المسلم المستطيع مرة واحدة في العمر، وليس هؤلاء أفضل من سيد الخلق الذي أدى الحج مرة واحدة، وأعلن فيها اكتمال الدين. وفي ظل ضيق المكان، وزيادة أعداد الحجيج، وضرورة إتاحة الفرصة لمن لم يحج لأداء الفريضة، دعا العلماء إلى مصارف أخرى للإنفاق الشرعي والاجتماعي لمن يكررون الحج، ورأى بعض العلماء أن الصرف على إطعام المساكين وفقراء المسلمين، أو الإسهام في التعريف بدين الله، سبيل للخير أفضل من تكرار الحج، فهل ذلك يعد ظاهرة كبيرة توجب التوعية أم أنه ظاهرة محدودة؟ وما رأي الفقهاء في من يكررون الحج في ظل الحشود الهائلة، والأعداد الكبيرة، وضيق مناطق المشاعر؟ وأيهما أفضل.. الحج أكثر من مرة، أم التبرع في مجالات الدعوة، أم رعاية الأيتام أم إطعام المعوزين؟ السنة والواجب في البداية يوضح الشيخ إبراهيم بن جاسر الجاسر رئيس محكمة محافظة القريات: الإسلام دين مصلحة ودين رعاية ودين رحمة ودين تكاتف وتواد وكذلك دين إيثار؛ فكل هذه الأشياء يجب أن تراعى وتوضع في مواضعها، ولما افترض الله الحج على المسلم المستطيع مرة واحدة في العمر اتضح لنا أن كل هذه الأشياء التي ذكرتها الشريعة هي رحمة ورفق بالمسلمين ولرفع الحرج والمشقة عنهم؛ ولهذا نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج إلا مرة واحدة مع استطاعته أن يحج أكثر من مرة، وقد يصل الأمر إلى الضرر من تكرار الحج إما بنفسه وإما بالآخرين، خاصة في زمننا الحاضر في ظل ظروف ضيق المكان وزيادة أعداد الحجيج وجهل الكثير منهم وضعفهم، وهذه الأسباب يجب أن تراعى؛ فتكرار الحج سنة وإزالة الضرر واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما أن السنة لا تقدم على الواجب؛ ومن هذا المنطلق يتضح لنا أن تكرار الحج سنة وترك التكرار لإزالة الضرر وإفساح المجال للآخرين واجب؛ فالترك مقدم على الفعل، والشارع الحكيم قد أفسح مجالات الخير والتقرب إلى الله، وما كان أنفع للناس فهو أعظم أجراً، ومنافع الناس تتفاوت من زمان إلى زمان ومن مكان إلى آخر، بل حتى من شخص إلى شخص؛ فإذا نظرنا إلى هذا في زمننا وجدنا أن هناك الكثير من أبواب الخير من إطعام المساكين والدعوة إلى الله والتعريف بدين الله ونحوها وهي أفضل من تكرار الحج لحاجة الناس إليها أكثر في هذا الزمن، ودفعاً للضرر الذي يقع بكثرة الحجيج وأن نسبة الذين يكررون الحج نسبة كبيرة خاصة من داخل المملكة سواء مواطنين أو مقيمين؛ فإن توعية هؤلاء عن طريق وسائل الإعلام وغيرها واجبة لإزالة الضرر، حتى ولو وصل الأمر إلى منعهم عن طريق السلطات، سائلاً المولى - جل وعلا - أن يوفق حكومتنا لما فيه المصلحة للإسلام والمسلمين عامة وحجاج بيت الله خاصة، وأن يبصر المسلمين بأمور دينهم وأن يديم أمن هذه البلاد الطاهرة لها تحت ظل حكومتنا الرشيدة وأن يرد عنها كل مفسد ومغرض وأن يكتب السلامة والعافية لحجاج بيت الله الحرام وأن يتقبل منا ومنهم صالح الأعمال. مرة واحدة ويقول الدكتور حسين بن عبدالله العبيدي أستاذ الفقه في كلية الشريعة بالرياض: إن الله - جل وعلا - فرض الحج على المستطيع من المسلمين؛ قال الله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}، وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحج مرة واحدة في العمر وما زاد بعد ذلك فهو تطوع، ولم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته إلا مرة واحدة هي حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة، وهذا الحكم بالإجماع بين أهل العلم ولا اختلاف فيه، بحمد الله تعالى. وقد جاءت نصوص تحث على المتابعة بين الحج والعمرة وتكرارهما؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة..) الحديث، ومعنى الحديث: قاربوا بين الحج والعمرة. وجاءت نصوص أخرى تبين فضل الحج وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة في فضل الحج وجزائه. وإزاء تلك النصوص التي توجب الحج مرة واحدة والنصوص التي تبين فضل الحج وتكراره، ونظراً للظروف الراهنة من ضيق المكان وكثرة أعداد المسلمين التي تفد إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج مما حدا بالعالم الإسلامي إلى تحديد الأعداد بما يناسب سعة الأماكن، سواء من الداخل أو الخارج. ونظراً لما يحدث كل عام من الازدحام المتناهي مما يوقع أحداثاً كبيرة تودي بحياة بعض الناس فمن هنا جاء تحديد سنوات يمضيها الإنسان قبل حجه مرة أخرى، ولاشك أن تكرار الحج ممن سبق له الحج دون إمضاء المدة المطلوبة ظاهرة خصوصاً ممن يحج من الداخل سواء كانوا مواطنين أو مقيمين؛ فهو ظاهرة تستدعي الحل والاهتمام، وحينئذ يتوجه السؤال: أيما أفضل حج التطوع أم التبرع بنفقة الحج في مشاريع الخير من مجالات الدعوة أو رعاية الأيتام أو إطعام المعوزين؟ أقول: إزاء ما تقدم وبالنظر في الوضع الراهن فإن المسلم إذا ترك تكرار الحج قاصداً بذلك إتاحة الفرصة لمن لم يؤده من المسلمين وصرف نفقة الحج في مشاريع الخير فإن ذلك أفضل من تكرار الحج؛ فقد ترك نفل الحج ليس رغبة عنه وزهداً فيه وفي أجره، وإنما إيثاراً لإخوانه المسلمين الذين يؤدون فرضهم فهو بهذه النية الصالحة يرجى له الظفر بالأجر العظيم، لأنه وازن بين المصالح فآثر حاجة إخوانه على حاجته؛ لأنهم مفترضون وهو متنفل، وقد أجابت اللجنة الدائمة للإفتاء عن هذا السؤال بأن تكرار الحج يرجع إلى وضع المكلف المالي والصحي وحال من حوله من الأقارب والفقراء، وإلى اختلاف مصالح الأمة العامة ودعمه لها بنفسه وماله، وإلى منزله في الأمة ونفعه لها حضراً أو سفراً في الحج وغيره؛ فلينظر كل إلى ظروفه وما هو أنفع له وللأمة فيقدمه على غيره. وفي سؤال لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - خلاصته أيهما أفضل الحج أم التبرع للمجاهدين؟ فجاء الجواب: بذلها للمجاهدين أفضل من بذلها في حج التطوع؛ لأن نفل الجهاد أفضل من نفل الحج. وإذا حسنت نية المسلم في قصده في ترك الحج فهو على أجر عظيم؛ فقد جاء في حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن أقواماً خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر) رواه البخاري. وفي رواية (إلا شركوكم في الأجر)؛ فهؤلاء تخلفوا عن الغزوة معذورين واشتركوا في الأجر مع الغزاة لنيتهم الصالحة فلم يتخلفوا كفراً ولا نفاقاً ولا رغبة في الأجر وإنما تخلفوا للعذر فأعطوا جزاء الغزاة لنيتهم الصالحة. ومن هنا فإننا نهيب بإخواننا المسلمين الذين أدوا فرض الحج ولم يكونوا مرتبطين مع الحجاج بإرشاد وتوجيه ونحو ذلك أن يؤثروا إخوانهم المسلمين الذين لم يؤدوا هذه الفريضة، وإن تصدقوا بنفقة الحج على المحتاجين وعلى مشاريع الخير فهم على أجر عظيم وثواب جزيل ولا سيما أنهم متنفلون فيوازنون بين نفل الحج وإنفاق هذه الأموال على مشاريع الخير، ومن القواعد الفقهية المقررة أن المتعدي أفضل من القاصر، فأجر الحج قاصر على الإنسان نفسه بينما الصدقة يتعدى نفعها المتصدق، ويعظم أجرها بذلك. الحكمة في فريضة الحج أما الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الهليل أمين الجمعية العلمية السعودية للسنة وعلومها فيشير إلى أن من رحمة الله بعباده ولطفه بهم أن فرض عليهم أداء الحج في العمر مرة واحدة، ولم يجعله من الفرائض المتكررة التي تتكرر على كل مسلم وتتعين عليه في كل عام أو شهر أو أسبوع؛ ذلك أن الفرائض التي تتعين على كل مسلم في كل عام كالزكاة، والصوم أو تتعين في كل جمعة كصلاة الجمعة، أو تتعين في كل يوم كالصلوات الخمس، أقول: إن هذه الفرائض المتعينة والمتكررة لا تقتضي مكاناً محدداً كفريضة الحج؛ ولذا كان متيسراً على جميع المسلمين أن يؤدوها جميعاً في وقت واحد في مشارق الأرض ومغاربها دون مشقة ولا حرج، وأما فريضة الحج فهي مرتبطة بمكان وزمان محددين، فكان من رحمة الله أحكم الحاكمين وهو العالم بما يصلح عباده أن جعل فريضة الحج في العمر مرة واحدة على المسلم المستطيع. ولك أن تتخيل ما سيكون عليه الأمر لو كان الحج متعيناً على جميع المسلمين في كل عام!! حيث سيتعذر معه بكل تأكيد أداء هذه الفريضة على عدد كبير من المسلمين، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت جعل فريضة الحج في العمر مرة واحدة، فلله الحمد والمنة على تفضله ورحمته بعباده. ولأجل ما يحصل من الزحام الشديد في موسم الحج في كل عام بسبب تزايد الحجاج الراغبين في أداء الفريضة مع تيسر وسائل المواصلات التي تنقل مئات الآلاف في أيام محددة من شتى بقاع الأرض.. أقول: لأجل هذا رأى بعض العلماء أن تكرار المسلم للحج في كل عام سيؤدي إلى مضايقة من لم يؤد الحج في عمره ولو مرة واحدة، وسيفوت عليه الفرصة في أداء هذه الفريضة أو يوقع به الحرج عند أداء مشاعرها؛ ولذا كان الأفضل لمن أدى الحج أن يتيح الفرصة لإخوانه المسلمين ليؤدوا فريضتهم، ويمكن للراغب أن يكرر الحج بعد خمس سنوات من أدائه آخر حجة حتى تنتظم الأمور وتتاح الفرصة لبقية المسلمين في جميع العالم لأداء هذه الفريضة، ثم إن أبواب الخير كثيرة ومتنوعة، فمن رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهم أنواعاً كثيرة من أبواب الخير يجد فيها كل مسلم بغيته؛ فهذا يتصدق بفضل ماله، وهذا يكثر من تلاوة كتاب ربه، وهذا تجده راكعاً وساجداً يرجو رحمة ربه، وآخر قد فُتح له باب من حسن الخلق وبشاشة الوجه، وذاك مشتغل بالإصلاح بين الناس، وآخر مجتهد في تقديم المساعدة لمن يحتاج إليها... إلخ من أبواب الخير التي تصب في مصلحة المجتمع المسلم وتجعله مجتمعاً مترابطاً برباط الأخوة. ويقول الدكتور أحمد بن يوسف الدريويش أستاذ الفقه في كلية الشريعة بالرياض: المملكة الحاضنة للحرمين الشريفين سهلت كل السبل أمام كل مسلم في سبيل الوصول إليهما بيسر وسهولة وبلا منة أو إتاوة أو كلفة ومشقة، بل استضافت كل عام آلافاً من الحجاج والمعتمرين على نفقتها الخاصة، ونفقة ولاة أمرها من مختلف بلاد العالم؛ من أجل تمكينهم من أداء هذا الركن العظيم قربة لله تعالى وحسبة له وحده - جل وعلا - إلا أنه أمام عظم هذه المسؤوليات وإيجاد هذه الإمكانات في تنظيم وخدمة الحجاج وتسهيل أمورهم حتى يعودوا إلى بلادهم سالمين غانمين، فإن الأمر يتطلب تعاون الجميع من المسلمين وتضامنهم في الداخل والخارج من أجل إتاحة الفرصة لمن لم يحج لأن يؤدي هذه الفريضة على الوجه المأمور به شرعاً، بيسر ودون حرج أو مشقة. ولا شك أن هذا يعد خلقاً إسلامياً رفيعاً، وعملاً دينياً جليلاً، مَنْ عمله حُسبة لله، وقُربة له، وإعانة لأخيه على البر والتقوى، وإيثاراً للغير على النفس، فهو مأجور، بل نحسب أن له من الأجر والمثوبة مثل ما لأخيه الحاج، ففضل الله واسع، ورحمته محيطة بكل شيء، والمسلم إذا هَمّ بالحسنة ولم يعملها لمبرر شرعي فله أجر من عملها فضلاً من الله ومنة. وأحب هنا أن أشير إلى أنه مراعاة لذلك فقد حدد المؤتمر الإسلامي المنعقد في سنة سالفة عدد الحجاج لكل دولة من دول العالم الإسلامي في كل سنة، كما أن الدولة السعودية - أيدها الله بعزه ونصره - قد نظمت حجاج الداخل بحيث لا يمكّن مَنْ حج في سنة من الحج إلا بعد مضي مدة زمنية محددة؛ وذلك بناءً على مصالح رأتها، ودفعاً للمفاسد والمضار من تكرار الحج، وحتى تتاح الفرصة لأكبر عدد ممكن من الحجاج والمعتمرين لأداء هذا الركن العظيم بأيسر السبل، وأسهل الطرق، ودون حرج أو مشقة أو كلفة؛ ذلك أن للحاكم المسلم - كما ذكر ذلك بعض أهل العلم - أن يقيّد المباح أو ينظمه إذا كان في ذلك مصلحة متحققة للعباد أو البلاد، أو ترتب على عدم ذلك إضرار بالرعية أو بعضهم أو ضياع للحقوق، أو إخلال بأداء الواجبات، وهو يندرج تحت قاعدة : (لا ضرر ولا ضرار). وأيّ مصلحة أعظم من ترك تكرار الحج ولا سيما في هذا العصر، فإذا كان هناك صنف من الناس يؤدي حج النافلة أو يكرر الحج مرة بعد أخرى وآخر يؤدي حج الفريضة لكن لا يتأتى له أداؤها إلا بمشقة وعسر وكلفة وأذىً، وربما بإخلال أو تقصير في بعض الواجبات والآداب والمستحبات، فللحاكم حينئذ أن يتدخل فينظم الحج، ويمنع من سبق له الحج أن يكرره من أجل إتاحة الفرصة لمن لم يحج، ويوجهه إلى أن يصرف جهده ووقته وماله إلى عبادات قاصرة ومتعديّة من الإنفاق في سبيل الله، وما أكثر المحتاجين والمعوزين، وبناء المساجد وإنشاء دور العلم ومدارس تحفيظ القرآن الكريم وتعليمه، وتعليم المسلمين أمور دينهم، ونشر الكتب الإسلامية النافعة، والدعوة إلى الله بالحسنى، وكفالة الأيتام والأرامل والعجزة والمعوقين أو إعانتهم، أو تحجيج من لم يحج من فقراء المسلمين، وذلك أفضل وأعظم درجة عند الله ولا سيما في ظل هذه الظروف والأوضاع الحالية، ولنا في أسلافنا أسوة وقدوة، حيث آثر بعضهم الإنفاق، وعلى الجميع الطاعة والامتثال، وعدم الاعتراض على قراراته أو الخروج عن أمره مع قيام المصلحة في ذلك، فإن فعلوا فإنهم يعدون مخالفين، وعليهم أن يمتثلوا عن طيب خاطر وسماحة نفس وتسليم، وأن يعتبروا ذلك قربة إلى الله. أما من يتطلب عملهم تكرار الحج كالعلماء والدعاة والمفتين ورجال الأمن والأطباء والفنيين والكشافة وسائر من يؤدون خدمات مباشرة أو غير مباشرة لحجاج بيت الله، فهؤلاء لا سبيل عليهم، لأننا نحسب أنهم يؤدون عملهم طاعة لله بحجهم، وقربة له - سبحانه وتعالى - بخدمة ضيوف الرحمن، وحجاج بيته الحرام. فقه الأولويات ويضيف د. الدريويش قائلاً: إنما السبيل على من يكرر الحج مرة بعد أخرى مع ما يشاهده ويسمعه من تزايد أعداد الحجاج عاماً بعد عام، وضيق الأماكن المقدسة والمشاعر عن استيعاب هذا العدد الهائل، مع تضافر الجهود، وضخامة الإمكانات، وتهيئة كل السبل الممكنة مادياً وبشرياً من أجل خدمتهم وأدائهم نسكهم بيسر وسهولة وبأمن وطمأنينة، ولا يتيح الفرصة لمن لم يحج لأداء هذه الفريضة، فإن أمثال هؤلاء - هداهم الله - قد غاب عنهم فقه الأولويات، ولم يراعوا المقاصد العامة للشريعة، وقاعدة (درء المفاسد أولى من جلب المصالح)، وما يترتب على ذلك من زحام ومشكلات وإضرار وأخطار، مع أنه - بحمد الله - هناك وجوه أخرى من التعبد لله، والتقرب إليه لا تقل أجراً ومثوبة - إن خلصت النية - عن حج النافلة، ولا سيما ونحن ندرك أن صنفاً من الناس يحج سياحة ونزهة معتمداً على ما منّ الله به عليه من مال وثراء أو غنى فيترفه في حجه، وربما أخل بشيء من الواجبات، وتتبع الرخص المخلات، أو الأقوال المرجوحة أو الشاذة، فضلاً عن الإخلال بالآداب والمستحبات، وآخر يقصد بحجه التجارة، وثالثاً يحج بقصد طلب المال عن طريق الاستجداء، والتسول، وقسم رابع يحج تقرباً لله وعبادة له وقليل ما هم، فيخشى أن نكون في وقت يصدق فيه ما ورد في الأثر عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (الوفد كبير والحج قليل). ومن العجب أن بعض الناس يحج مع عدم توافر شروط الحج في حقه وبخاصة شرط الاستطاعة أو القدرة المادية أو الجسدية، حيث قد يكون شيخاً كبيراً طاعناً في السن، أو امرأة عجوزاً كبيرة، أو ذا إعاقة بدنية، أو لم يتوافر المحرم للمرأة، ومعلوم أن هؤلاء وأمثالهم لا يجب عليهم حج الفريضة؛ لفقد شرطه في حقهم فما بالك إذا كان الحج نافلة؟ وآخرون قد يترتب على ذهابهم إلى الحج ارتكاب بعض المحظورات أو الإخلال ببعض الواجبات أو الحقوق الشرعية في بلده الذي أنشأ منه السفر، كأن يكون للإنسان والدان محتاجان إليه، أو أحدهما أو له ذرية ضعفاء يخشى عليهم من الضياع أو الفساد حال غيابه عنهم، ناهيك عن أن بعض الناس قد يكون إماماً لجمعة أو جماعة منصوباً أو جندياً مرابطاً في أحد الثغور أو موظفاً أو طبيباً أو فنياً محتاجاً إليه في موقعه في هذا الوقت مع عدم وجود البديل، أو عدم الكفء الذي يحل مكانه، وحج أمثال هؤلاء نافلة لا فريضة، فلا يسوغ للمسلم حينئذ أن يدع الفرائض أو الواجبات أو الحقوق أو يفعل المنهيات والمحظورات من أجل تحصيل أمر مستحب أو نافلة كما هو مقرر شرعاً، فعلينا أن نتقي الله ما استطعنا وأن لا نحمل أنفسنا ما لا تطيقه، أو يشق عليها احتماله.
|
|
|
| |
|