| |
فن الاختفاء.. فاطمة المزروعي
|
|
اعتادا في بداية حياتهما معاً أن يلعبا لعبة الاختباء..، لعبة يضيِّعان فيها بعضهما ثم يبدأان في العثور على بعضهما في أرجاء الحارة.. لعبة ممتعة. ضفائرها الطويلة، أصابع قدمها السمراء، وهي تعدو في طرقات الحارة، ثوبها الفضفاض ذو الألوان الزاهية، هو أمامها، وهي في الخلف تصدر أصواتاً عالية، وتنطلق ضحكاتها، تنطلق في سعادة، وتكاد من فرطها تتقافز من بين شفتيها. السير باتجاه الطرق الملتوية، المملوءة بالحجارة، والأطفال الذين يلعبون، والشوارع حيث الجرائد الممزقة، والقمامات المملوءة بالنفايات. السير بأقدام حافية، دامية، مغبرة، والبحث عنها وسط هذه الوجوه، عملية مرهقة، لا بد أنها لا تزال تظن بأن اللعبة لم تنته. البيت يقترب، والباب الخشبي الضخم يلوح من بعيد، وعالمها يبتعد عنه تدريجياً، تدريجياً، وضفائرها تبتعد، ويتلون جسدها باللون الأسود، ذلك السواد الذي يتلفع بتقاسيمه.. حفيف الستارة الداخلية يثيره، يرفع رأسه، يرمقها ببرود، الهواء الحار يعبث في البيت بجنون، وينفذ خلال النوافذ المشرعة، تذكر بأنه أخبر والدته مراراً ألا تفتح النوافذ في فصل الصيف، هو يكره الحر، ويكره الشمس، ويكره أموراً كثيرة في حياته.. وقع أقدامها يثير فوضى حميمة في داخله.. رفع رأسه إلى وجه والدته الجالسة على المقعد الطويل في الصالة، اقترب منها، قبّل يديها، ثم غادر مسرعاً، ولم تسأله هي عن سبب ضيقه، اكتفت بابتسامة شاحبة، ثم عادت لتكمل حديثها مع صديقتها في الهاتف، لامبالاتها الواضحة، تجاهلها لأحاسيسه، انشغالها بدورها الروتيني في الحمل والإنجاب، جعلها لا تفهم سر تلك الحالة التي يعيشها.. الغرفة الباردة، بابها العتيق، الأرضية الرخامية، الكرسي اليتيم الذي يقبع بجوار النافذة الزجاجية، رأسها يخرج من خلف الستارة تبحث عنه، يصرخ لوهلة، وهي تتعلق بثوبه: كفى، لقد فزت علي.. تطلق ضحكة صافية، وتعود للاختباء، يبحث عنها تحت السرير، في الخزانة الطويلة، بين ملابسه، وفي أدراج مكتبه بين صوره الماضية. بحث طويلاً حتى تعب، وعفر قدميه التراب، أدماهما البحث، لحظتها أدرك بأنه قد أضاعها في لعبتهما.. - هيا اخرجي، لقد تعبت من البحث عنك.. ................ - لا تنفعك، والدها سكّير، وأمها تدور في البيوت وسمعتها على كل لسان.. - لكنني أريدها يا أمي.. والدته ترشف القهوة من فنجانها الكبير وتتمتم في عصبية ممزوجة باستنكار، وهي تدق على صدرها: سوف أبحث لك عن بنت جميلة، تستحقك يا بني.. ووالده زعق في وجهه: إن تزوجتها، أقسم إنك لست ابني ولا أعرفك.. لا تزال هي مختبئة، منتظرة أن يبحث عنها، نظرة عينيها البريئة لا يمكن له أن ينساها.. لم يعد فن الاختباء يثيرها، ولم يعد فن البحث عنها يروق له، أراد أن يدخلها عالماً لا يمكن لها أن تجد مكاناً للاختباء سوى في صدره، قبل أن يعلم بأنه لن يراها بعد ذلك أبداً، تحدثا طويلاً عن أشياء كثيرة.. كان يتأمل صوتها أكثر مما ينصت إلى المعلومة فيما تقول.. وتغور عيناه بكل ما يراه سابحاً في عتمة مشاعره. كان الزهو في أعماقه يكبر كلما لمح أصابع قدميها، وهي تعدو خلفه في الحارة، ويتضايق كلما وجد الغبار طريقه إليهما، ويمسحهما بثوبه من فرط تعلقه بهما.. لم يصدق أن التي ظنها تتقن فن الاختباء فقط تمتلك لساناً جميلاً، ومنطقاً تتفوق به عليه، كان كلامها أشبه بسهام صوبتها إلى أمكنة مجهولة، لكنه لم يستطع رغم ذلك أن يعدها بشيء، فاتهمته بالضعف والجبن والانضواء تحت براثن عائلته، وانسحبت بصمت ودون كثير بالٍ من فقدانه. تمنى أن تلتفت للخلف وتخبره برغبتها في العودة إلى اللعبة، يضيِّعان بعضهما ثم يبدأان في العثور على نفسيهما. لكنها لم تمنحه هذا الشيء.. كان الضباب قد انتشر بسرعة في الحديقة التي كانا فيها معاً، وكانت مشاعرهما قد تاهت وسط مقاعدها وأشجارها الكثيفة.. هذه المرة أدرك بأنه قد ضيعها للأبد، وأنه لن يعود لتلك اللعبة أي زهو مماثل لما كانت عليه معها، بل بالأحرى أن اللعبة نفسها اختفت من الوجود بمجرد اختفائها هي.
|
|
|
| |
|