| |
إنما الأفهام تختلف عبد الله الصالح العثيمين
|
|
كان من بين ما نشرته من مقالات في هذه الصحيفة الغراء مقالة من حلقتين عنوانها: (تواريخ بقيت في الذاكرة). وكان من أهداف هذه المقالة أمران: الأول الإشارة باختصار شديد إلى جوهر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - التي قامت على أساس مناصرتها الدولة السعودية، وانتصرت بتلك المناصرة، التي أخذت السهام توجَّه إليها - في الآونة الأخيرة - من خارج هذا الوطن؛ وهو أمر غير مستغرب، ومن داخل الوطن؛ بل من أفراد ينتمون إلى أُسر كان من المستبعد جدا أن يحدث منهم ما يحدث؛ وهذا أمر غريب. ومن المعلوم لدى العقلاء وذوي الرأي الثابت أن تحطيم أساس أي بنيان يؤدي في نهاية المطاف إلى تهاوي البنيان نفسه. وسأحاول - إن شاء الله - كتابة مقالات موسعة عن هذه المسألة. والأمر الثاني من أهداف المقالة الإشارة إلى قِدَم رسوخ التصهين لدى بعض الزعامات الغربية؛ وبخاصة قادة أمريكا، وحماستهم في تبني أفكار الصهاينة وآرائهم حول فلسطين، وأن مواقف القادة الحاليين - وإن بلغت أقصى درجات التصهين والعداء لأمتنا في قضيتها الأولى قضية فلسطين - تأتي في سياق منسجم نتيجة أوضاع إقليمية ودولية واضحة كل الوضوح لكل متدبِّر متأمل في تاريخ تلك القضية. ولعل من حسن حظي - ونعم الله عليَّ كثيرة - أني عشت - وما زلت أعيش - مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والدولة السعودية التي قامت على أساس مناصرتها منذ أربعين عاماً عندما بدأت كتابة أطروحتي للدكتوراه عن ذلك الشيخ المصلح في جامعة أدنبرا الاسكتلندية، وأصدرت كتابا عنه بالعربية معتمداً على تلك الأطروحة، كما أصدرت عدداً من الكتب عن الدولة السعودية؛ تأليفاً أو ترجمة أو تحقيقاً، بينها تاريخ المملكة العربية السعودية المؤلف من جزأين ثانيهما كُلّه عن الملك عبد العزيز - رحمه الله - وقد لقي هذا الكتاب قبولاً - ولله الحمد - لدى زملائي وزميلاتي في الجامعات والكليات في وطننا العزيز، ولدى طلاب تلك الجامعات وطالباتها متمثلاً في كون الجزء الأول منه طبع حتى الآن ثلاثة عشرة طبعة. وهذا نعمة من نعم الله عليَّ ومصدر سعادة لي. وكان مما ورد في المقالة المتحدث عنها إشارة مختصرة إلى جوهر دعوة الشيخ محمد والدولة السعودية؛ وهي: (كانت تلك الدولة السعودية (الأولى) قد قامت على أساس مناصرة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وانتصرت بتلك المناصرة، وكل من قرأ ما نادت به تلك الدعوة قراءة تأمل منصفة يدرك أن جوهرها المناداة بإخلاص العبادة لله وحده، وتخليص عقل المسلم مما شاع في بعض المجتمعات المسلمة من أمور تتنافى مع عقيدة التوحيد الخالص، وبدع أُدخلت على الممارسات الدينية نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، واجتنبها السلف الصالح من الأمة الإسلامية، وخرافات تراكمت عبر القرون لتترسَّخ كلما مرَّت بها الأيام. وكانت الدولة السعودية الأولى في طليعة المحاولات الرامية إلى توحيد ما يمكن توحيده من أجزاء الأمة العربية التي كانت - وما زالت - مشتتة). أما ما يتصل بمسألة تصهين بعض قادة الغرب؛ وبخاصة قادة أمريكا، فكان ما أشرت إليه باختصار شديد عن نماذج من بعض مواقفهم قد شرحته مفصلاً في مقالات كثيرة صدر منها ما صدر في ثلاثة كتب هي: خواطر حول القضية، ومقالات عن الهمّ العربي، وكتابات عن التصهين. ولقد وردت في الحلقة الأولى من المقالة المتحدَّث عنها إشارات إلى بعض حوادث مرَّ بها تاريخ الدولة السعودية في القرن الثالث عشر الهجري - التاسع عشر الميلادي. ولم يكن يقصد بتلك الإشارات كتابة تاريخ أحداث تلك الدولة، وإنما كان ذلك محاولة ربط تاريخ مواقف المتصهينين من قادة الغرب بتاريخ حوادث وطنية أملاً في إيضاح تلك المواقف واستقرارها في الأذهان. أما الحلقة الثانية من المقالة فقد وردت فيها إشارات إلى ما حدث في القرن الماضي من مواقف متصهينة لقادة الغرب المشار إليهم، وموقف من وفقه الله في توحيد أجزاء وطننا العزيز ولمِّ شتات مناطقه، وتوطيد الأمن فيه، ووضع أسس تقدُّمه في مختلف الجوانب الحضارية، الملك عبد العزيز - رحمه الله - من تلك المواقف المتصهينة. ولقد حاولت ربط تاريخ ما أشرت إليه من مواقف المتصهينين بتاريخ حوادث وقعت في عهد ذلك المؤسس أملا في تحقق ما أملت في تحققه من ربط الحوادث في القرن الذي سبقه. أما تاريخ ذلك الموحِّد العظيم فقد كتبت عنه في الجزء الثاني من تاريخ المملكة، وفي مؤلفات أخرى بينها معارك الملك عبد العزيز المشهورة لتوحيد البلاد. ولأن الآونة الأخيرة شهدت - مع الأسف الشديد - ظهور كتابات تحاول أن تهمِّش دور الدين في بناء توحيد هذا الوطن، الذي يعتز به كل مخلص غيور، فإني أشرت إشارة مختصرة جداً إلى موقف قائد مسيرة ذلك التوحيد قائلاً: إن الملك عبد العزيز نجح عام 1319-1902م (في انتزاع الرياض من عامل الأمير عبد العزيز بن رشيد فيها؛ مبتدئاً بذلك أولى خطواته، الموفَّقة في استعادة الحكم السعودي، وتوحيد مناطق البلاد، التي أصبحت تسمَّى المملكة العربية السعودية. وعوامل نجاحه فيما حقَّقه من نجاح في ذلك التوحيد كثيرة. ومن هذه العوامل ما كان ذاتياً متصلا بشخصيته القيادية العظيمة. ومنها ما كان عائداً إلى ظروف تمكَّن بحنكته ودهائه من استثمارها استثماراً جيداً. وليس المجال هنا مجال حديث عن تلك العوامل. غير أن من الثابت أن العامل الديني؛ سواء بتحلِّي ذلك القائد بالتدّين، أو بطرحه الدين طرحاً إعلامياً، كان من أهم عوامل نجاحه في عملية توحيد الوطن. ومن لا يعترف بذلك العامل، أو يقلل من أهميته، فإنه لم يقرأ تاريخ البلاد قراءة صحيحة أو تجاهل الحقائق). ومن المعلوم أن كل صاحب قضية لا بد له من طرحها إعلامياً. والطرح الإعلامي هو نفسه المناداة بما يتخذه المرء من موقفٍ تجاه أمر ما. ومن تأمل تاريخ الدولة السعودية منذ نشأتها الأولى قبل قرنين ونصف القرن تقريباً يجد أنها جعلت الدين طرحها الإعلامي. وسيرة الملك عبد العزيز - رحمه الله - حلقة في سلسلة هذا التاريخ. فقد نادى - كما نادى أسلافه - بتبني الدين الصافي منهجاًَ. وكان من عبارات النخوة المشهورة في عهده (خيَّال التوحيد)، و(أنا أخو من طاع الله)، كما كان كثير من القصائد التي يردِّدها أنصاره مفعمة بعبارة دالة على تبني الدين. وكان ما يؤخذ من الناس تموينا لعمليات التوحيد يسمى ضريبة الجهاد، كما كان هناك جهاز رسمي يسمى إدارة المجاهدين. وكنت قد ألقيت محاضرة في المؤتمر العالمي عن الملك عبد العزيز - رحمه الله - ذكرت فيها عوامل نجاحه في توحيد أجزاء الوطن، الذي أصبح اسمه المملكة العربية السعودية. وقلت إن تلك العوامل تعود في مجملها إلى أمرين: صفاته القيادية، والظروف الداخلية والخارجية التي أحاطت بمسيرته. ومن صفاته القيادية تلك ذكرت إحدى عشرة صفة أولاها التديُّن. وقلت: إن تديُّنَه ذو مظهرين: أحدهما سلوكه الشخصي؛ إذ كان مستقيماً خلقياً، محافظاً على أداء الواجبات والسنن الدينية. وثانيهما مناداته بالإسلام عقيدة صافية وشريعة سمحة. وبذلك يتبيَّن أن الملك عبد العزيز - رحمه الله - لم يطرح طرحاً إعلامياً يقوم على أساس قبلي أو على أساس إقليمي، بل طرح موقفه إعلامياً على أساس ديني. وكان لذلك الطرح أثره الإيجابي البعيد في استقطاب أكثرية سكان البلاد. وفي الحلقة الثانية من المقالة التي نشرتها في الأسبوع الماضي أشرت باختصار شديد - كما ورد سابقاً - إلى تديُّن الملك عبد العزيز، وإلى طرحه الدين طرحاً إعلامياً؛ أي مناداته به، خلال عملية توحيده للبلاد. فإذا وُجد من فهم ما ورد في تلك الإشارة المختصرة فهماً يوحي بأنها تحمل مضموناً غير إيجابي فإن ذلك الفهم يؤكِّد أن الأفهام تختلف فيما يكتب من كلام، والسلام في المبتدأ والختام.
|
|
|
| |
|