كنت أتغنى بهذين البيتين للشاعر عبده بدوي صديق باكثير الحميم، عندما بدأت الطائرة التي أقلتنا من الرياض تقترب من عدن، وبدت ملامح البحر والجبل تلوح لي عن بُعد من خلال السحاب، ولم أشعر بمرور الوقت، وكأنها أقصر رحلة في حياتي، فقد استغرقتني طائفة من الخواطر والمشاعر عن عدن فلم تدع لي مجالاً لممارسة عادتي في السفر بالتحدث مع من يجلس بجواري والتعرف عليه.

لم أزر عدن إلا مرات معدودة في حياتي، ولا أذكر أين مكثت بها أكثر من أسبوع، ولكني لا أذكر أني غادرتها إلا وأنا في شوق إليها. والآن أعود إليها بعد غياب سبعة عشر عاماً تقريباً رغم ترددي على صنعاء وحضرموت خلال تلك السنوات.

وبدأ الطيار يهزنا بحنان، ويهبط بنا الهوينا، وبدت ملامح عدن تتضح من الجو مع بداية الاقتراب فاتنة التقاطيع، بارزة التضاريس، يعانقها البحر من أمامها من كل اتجاه، ويحتضنها الجبل بحنان من خلفها، واستطعت أن أرى جبل شمسان الشهير الذي تتكئ عليه عدن في أوقات الشدّة، وما أكثر أوقات الشدة التي مرت بها في تاريخها الطويل - ثم تداعت الذكريات وزادت الخواطر والمشاعر، وبدا لي جبل شمسان أكثر وضوحاً، أو هكذا خيل لي، واستدعى مسمعي من ذاكرة الطفولة كلمات الفنان أبوبكر سالم بلفقيه في حب عدن التي جعلت من عدن حلماً رومانسياً في حياتنا نشتاق إليه وإن لم نعرفه، ومرت بخاطري أغنيته القديمة الشهيرة:

وقوله بشجن وحب وشوق لشواطئ عدن وجبالها:

وقوله في الأغنية نفسها أو غيرها شوقاً لجبل (شمسان) الأشم الذي أصبح معادلاً موضوعياً لمشاعر الحب والشجن:

والحقيقة أن هذه المشاعر نحو عدن لم ترتبط بحب أهلها لها ولا أهل اليمن وحدهم، فلعدن الأهمية نفسها في نفوس أبناء الجزيرة والخليج عندما كانت عدن ميناءً مفتوحاً ترده البضائع والناس من كل مكان، ويجد فيها أبناء المنطقة العربية كلها ما لا يجدونه في عواصم بلدانهم حتى جاء الاستقلال سنة 1967م وبعده بقليل استولى الشيوعيون على السلطة، وعزلوا عدن عن العالم وحولوها إلى قلعة للحديد والنار وتصدير الفكر الماركسي، ولم تنقشع عنها هذه الغيمة السوداء إلا بعد انهيار الشيوعية عالمياً، وموتها عملياً في عدن بتحقيق الوحدة اليمنية سنة 1990م، وتنفس الناس الصعداء، وبدأوا يشمون هواءً نقياً يبشر بمستقبل واعد.

وهبطت الطائرة، ولاحظت أن الطيار كان حريصاً على إنزالها بمهارة دون ارتجاج، فلامست عجلاتها أرض المطار برفق ملامسة عاشق خد حبيبته حتى لا يجرحه لفرط رقته أو هكذا خُيّل لي. فوجئت بمطار عدن الجديد الذي جمع بين النظافة والأناقة ولم يتخل عن البساطة التي تميز كل شيء في اليمن إنساناً ومكاناً، وكان آخر عهدي بمطار عدن القديم الذي لوثه الرفاق بدماء اقتتالاتهم القبلية، وأهلكوه حتى أصبح نذير شؤم على عدن وأهلها. وتجولت في أنحاء هذه المدينة العريقة نهاراً وعشية وليلاً، ولفت نظري نظافتها في كل الأوقات. وعدن من أفضل مدن العالم سياحياً في الشتاء حيث يعتدل فيها الجو من أوائل أكتوبر إلى أوائل مارس. واشتهرت عدن بشواطئها الجميلة التي تغنى بها الشعراء والأدباء وتوافد إليها السياح طلاب الدعة والأمن والجمال من كافة أنحاء العالم، وأشهر شواطئها (حقات) و(صيرة) و(الشاطئ الذهبي)، و(ساحل أبين) وغيرها.

وتضاريس ساحل عدن نادرة في شواطئ العالم السياحية، فخطها الساحلي يتكون من خلجان ومرافئ ومنتجعات طبيعية تحميها الجبال من الخلف، وطوال حركتك في عدن تجد البحر معك حيثما تكون كأنك في جزيرة وما أنت في جزيرة، وهذا ما جعل الرحالة الغربيين يعشقونها ويؤلفون فيها عشرات الكتب التي ترجمتها وأصدرتها مؤخراً جامعة عدن.