أصوات عاقلة وسط الفوران اللبناني

يحتاج لبنان بشدة إلى أن يغالب أحزانه، وأن يتنبه إلى ما يدور حوله من مؤامرات تستهدفه بجميع أحزابه وطوائفه، فالذين قتلوا بيار الجميل مؤخراً وقتلوا قبله الحريري وآخرين، لا يهمهم الانتصار لهذا الفريق ضد الآخر، بل يستهدفون لبنان ككل، فنجاح لبنان يعني الانتصار على الكثير الشرور، ونجاح لبنان يعني العودة إلى دوره الريادي السابق كأحدى المنارات الحضارية والثقافية والسياسية في المنطقة والتي أشاعت بنورها على المنطقة أجمع.
لبنان المتميز هو إضافة مهمة للكيان العربي المسلم، ولأنه كذلك فإن صكوك إعدامه ظلت تتواتر طوال العقود الماضية دون أن يتحقق هذا الإعدام على أرض الواقع، وحتى الحرب الأهلية التي تواصلت طوال عقد من الزمان لم تفلح في إخضاع لبنان أو تجيير قواه وإمكانياته ومواهبه لصالح الغير.. ومن ثم يتعيّن على اللبنانيين الصمود في معركة البقاء هذه. وقد كان جديراً الاستماع، وفي لجة الاضطراب والحزن يوم الثلاثاء وفي اللحظات التي أعقبت مباشرة الجريمة الآثمة، إلى صوت عاقل ومن أقرب المقربين إلى القتيل، بضرورة الركون إلى التهدئة، فهذه اللحظات كما قال ذلك الصوت ليست لحظات للاتهامات واجترار المرارات وتوعد الآخرين بأخطر المآلات وإنما هي للتفكير في كيفية إنقاذ لبنان بعيداً عن الانفعالات، فدم المغدور لم يجف بعد، وينبغي التأمل والتفكر وربما إفساح المجال للحزن النبيل لكي يستنفذ غاياته قبل الإقدام على الترتيبات اللاحقة.. ومع ذلك فإن أصوات أخرى لم تستطع تحمل الفاجعة فانطلقت معربة عن الحزن شديد الممزوج بإفرازات سياسية تشمل الاتهامات، غير أن المستغرب أن بعض الاتهامات صدرت من الخارج قبل الداخل، وتطوع آخرون ورسميون فيما وراء البحار للإفصاح عن اتهاماتهم حتى قبل أن يرسلوا تعازيهم.
الجريمة البشعة جاءت وسط خضم مضطرب لأزمة سياسية لبنانية مستفحلة، ومن هنا كانت، ولا تزال الخشية، من أن يصار إلى استغلال الحادث في تفجير الأوضاع بكاملها، ولهذا أيضاً جاءت تلك المناشدات المسؤولة من والد القتيل بضرورة التريث وتهدئة الانفعالات من أجل حماية لبنان.
وفي الحقيقة فإن القيادات الحقيقية والتي ستجد لها مكاناً في سجل التاريخ هي التي تعرف كيفية إدارة الأزمة وهي في قمة استفحالها، وسيكون جدير بلبنان أن يفسح في المجال أمام هذه القيادات لكي تعمل، ولكي تضع حكمتها وبصيرتها في جهود إنقاذ لبنان، وفي المقابل فإن ارتفاع الأصوات الأخرى المناوئة للتهدئة، وسيعها لاختطاف كامل المشهد لتجييره لصالح رغبتها العارمة في الانتقام، وفي وقت لم تتضح فيه ملامح الجريمة ولا خيوطها الرئيسة، فمن شأن ذلك وضع كامل البلد باتجاه الطريق المفضي سريعاً إلى الهاوية.