Al Jazirah NewsPaper Thursday  23/11/2006G Issue 12474مقـالاتالخميس 02 ذو القعدة 1427 هـ  23 نوفمبر2006 م   العدد  12474
رأي الجزيرة
الصفحة الرئيسية

الأولى

محليــات

الاقتصادية

الريـاضيـة

مقـالات

فـن

دوليات

متابعة

محاضرة

منوعـات

نوافذ تسويقية

الرأي

عزيزتـي الجزيرة

سماء النجوم

زمان الجزيرة

الأخيــرة

هل قشة تتحدّى طوفاناً؟
د. فوزية عبدالله أبو خالد

حين تحمّ ساعة الكتابة أكون عادة قد حسمت أمري على تراب أو أسفلت أو وعور أي الدروب أريد أن أكتب بدايتي أو نهايتي، هل على طريق الحرير أو عبر معابر ناقلات النفط أو في اتجاه تلك الجنائز التي لا تعود أو ربما أكتفي بجرّ جسدي أو قلمي من جنوب الرياض إلى شمالها فأرى من التناغم والتناقض بين مستويات المعيشة وبين الخلفيات الاجتماعية وأنماط السلوك ما يقشعر له الحبر في أوردتي؟ إلا أنني طوال مساءات هذا الأسبوع المضاءة بالهواجس والأخبار المخيفة العابرة للمحيطات كنت أشعر بحالة عزوف عن الكتابة كأنني كلما اقترب موعدها أستعد للذهاب إلى حتفي أو أتقدم عزلاء إلا من تباريح الروح نحو حافة هاوية مريعة لا أدري من هي الأيدي التي تدفعني إليها، كما لا أدري أي الفؤس والمساحي ستتلقفني فيها وتهيل ترابها على قامتي، فلا يسمع أحد من قراء جريدة الجزيرة يوم الخميس دقات قلبي وقد تركتني وحدي أنبش الكلمات علني أروغ من الوقت بضعة أعوام أخرى أو ساعات قليلة قبل أن أرخي يدي عن القلم لتكون كفي آخر ما يدخل من ضيق جثماني بحول الرحمن إلى فسحة قبري.
لذا ألعب بمفاتيح الكمبيوتر في محاولة لأن أؤجل ساعة الكتابة، فأمر ساعة المغادرة عند عالم الغيب والشهادة وحده، وبمجرد أن أقرب أصابعي من عقاربها يرفع عقرب الثواني شوكته ويبدأ بشك أصابعي بشهد سمومه المصفاة وحلكة ليلي المعشقة بالسهر؛ حتى أكاد أستسلم للمضي معه عكس عمري بطواعية وغبطة وسمو أولئك السلاطين في المخيلة القصصية أو سجلات التاريخ الذين ارتضوا التنازل عن عروشهم في لحظة طيش عشقي.
يلاحقني الهاتف الجوال حيث ليس ببيتي الجديد (هاتف منزلي) بنداءات سكرتارية رئيس التحرير عبر عمر مرعوب من موعد الكتابة الذي لا أعرف كيف أضبط ساعة عقلي على توقيته الدقيق الصارم، فهذا أ. عبدالإله القاسم، وبعده أ. فيصل المبارك، ثم أ. معاذ الجعوان أو أ. عبدالله الخربوش، وتلك الأصوات الخلوقة تنبهني في البداية بتهذب ولين، ثم لا تلبث النداءات أن تتحول في مخيلتي إلى قسوة صاعقة أسمع من خلفها صوت أبي بشار بجهوريته وصراحته الجارحة، فيعتري جهاز الكمبيوتر أمامي شعور يشبه قسوة صفارات القطارات حين يوشك الرحيل أو يشبه ذلك الرجع الموجع للنداء الأخير لرحلات الطائرات، وتغزو مفرقي وقراري بالكتابة تلك المشاعر التي هي مزيج من الإحجام والإقدام، والتراجع والتقدم، والتمسك والتخلي، والاستماتة واللا مبالاة، والرهبة واللهفة، مثلما نكون على حافة شفير أن تفوتنا رحلة، بما قد نتجاهلها فلا نصغي في كل تلك الأصوات المصطخبة داخلنا إلا إلى الصوت الذي له سطوة التهديد بالفقد، لنقذف أنفسنا بكل ما أوتينا من سرعة الحركة باتجاهه وكأننا لم نعد نملك من أمر خياراتنا إلا عدم التأخير للحاق بما يكاد يصير في حكم حتفنا إذ عندها كما لا يعبأ القبطان بتلك السواعد المعلقة بين اليابسة وبين البحر وهي تلوّح مناديل الوداع المبللة بلوعة الفراق وتوجس المجهول بعدم العودة، فإن رئيس التحرير لا يرحم تأخر الكُتاب في الالتزام بمواعيد دقيقة ومسبقة بوقت كاف على إغلاق صفحات الصحيفة قبل الإصدار، كما أنه وإن تعاطف مع ما يراه من تقيح جراحهم أو تشقق شعيراتهم الدموية الدقيقة على الورق فإنه ليس له أن يفض تلك الاشتباكات الدامية بين الكاتب وبين كتابته، وكل ما في وسعه أن يطلب من الكاتب أن يغسل كلماته من دمائه وسهره وسخطه وغضبه ومن وحم الكتابة ومخاضاتها قبل أن يبعث بها إلى الجريدة على ألا يستغرقه ذلك تأخير المقال عن موعده. والموقف الصعب هنا هو كيف يمكن الكتابة عن الحب، البلح، الحرية، التسامح، الحد، اللحد، الحمل، الحلم، الروح، النجاح، الانسحاب، الحنطة، التباريح، الرحيل، القبح، الحلي، الحلال، الحرام، البحر، السحاب، الصحراء، التفاح، الحوار، الحرب، الضحايا، الحياة، حمامة السلام، الأحياء والوحدة الجارحة دون استخدام حرف الحاء؟ كيف يمكن الكتابة عن وحشية الحروب إذا أخفيت جثث القتلى وأحرقت السجلات التي تدل على أنهم كانوا هناك أحياء يرزقون ويعشقون ويحلمون قبل اشتعالها؟ هل يمكن الكتابة عن العدل والمساواة والشعر والفنون التشكيلية وزرقة السماء وخضرة الأرض وعن نوافير الأمل أو الألم والصبر والطفولة والعنفوان وعن الإباء والجمال أو الوجه الحسن بغير أشواق المجتمعات البشرية ومحاولاتها الفاشلة والناجحة معاً على مر العصور لاستدراج تلك الكلمات المتكبرة خارج القاموس وتوطينها بين الناس؟ وهل يمكن كتابة تلك الكلمات بحبر سري لا يلحظه حراس اللغة الذين يتذرعون في محاصرتها بالخوف عليها من النزول إلى الشارع والاختلاط بالأطفال والحالمين والعشاق والشعراء؟ هل يمكن الكتابة عن ما يجري في العالم اليوم وما يجري على الأرض العربية بالقفزات بينما المخالب والخطافات تخترقنا فتزيد من تخبطنا وشتاتنا وضبابية خياراتنا وعجزنا عن تقبل اختلافنا وتردينا في تخلفنا وانقسامنا بيننا؟ هل بنا حاجة في هذه اللحظة إلا إلى كتابة إذا لم تقل كلمة حق فعلى الأقل لا تولم لنا بآلامنا ولا تدخلنا في نفق النفاق ولا تورطنا في قصر نظرها أو آنية مصالحها؛ فأي كتابة إلا تلك الكتابة التي تتلوى كأفعى وتحط على فرائسها كعقاب أو تسكت في كلامها كشيطان أخرس؟
كم نحن بحاجة حارقة إلى كتابة لا تتشفى بنا ولكنها في نفس الوقت لا ترتكب جريمة تجميل الأخطاء أو تشجيعنا على المضي فيها بحبر بارد أو بتعصب أعمى.
ففي هذه اللحظة هناك تطورات كبيرة على المستويين الداخلي والعربي، والإقليمي والدولي؛ فعلى المستوى الداخلي هناك الأمل بمشروع إصلاحي يشارك فيه المواطن بوعي وعمل لا يسمح لعجاف التردد أو لتقاليد الجمود أو للانشغال بمطاردة ما تبقى من جيوب الإرهاب بأن تبتلع خضرته. وعلى المستوى الخارجي هناك التصعيد المرعب على الساحة الفلسطينية داخلياً وفي تلك العلاقة القاتلة بإسرائيل التي لا تجيء مذبحة مثل مذبحة بيت حانون إلا لتجدد عهدها قبل أن تجف دماء شهداء المذبحة السابقة. وعلى الساحة العراقية هناك ما أسميه بحراج الحرب المفتوحة على أفجع الاحتمالات، وهناك تدعيات موضوع الاغتيالات الغامضة المشبوهة في لبنان، ومخاوف ما قد تعيده إلى البلاد من أشباح حرب طائفية. وهناك على امتداد الوطن العربي ذلك المشروع الخطير للشرق الأوسط الكبير أو الجديد أو أي من تلك التسميات التي تتمسح بأسماء مخاتلة لا تخفي مهما تجملت نوايا (تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ)؛ لإعادة إنتاج سايكس بيكو بأشكال أشد ضراوة، هذا دون الحاجة إلى كي الذاكرة بمخاطر تداعيات الموقف من إيران وفيها، بما لا تزال خطورته لتكشف ويجري البحث في أبعادها القريبة والبعيدة.
إن هذا التعقيد المرعب هو ما يجعل الكتابة أمراً في غاية الضراوة والدقة والمسؤولية الصعبة؛ لأن الكتابة في هذه اللحظة تحتاج إلى الحس النقدي في التحليل وتحتاج إلى عيون زرقاء اليمامة في حدة البصر، وتحتاج إلى بوصلة استراتيجية في الرؤى، كما تحتاج إلى مساحة لا تحد من الحرية للحوار فيما يجري قبل أن يجرفنا جميعاً إلى مصائر نخالها ليست من صنعنا، ولكننا لا نستطيع أن نعفي أنفسنا من مسؤولية مصائبها.
وهذا النوع الصعب من الكتابة الذي نحتاج إليه هو التحدي الذي يحدوني لأن أشعر كلما اقترب موعد تسليمي للمقال بفداحة الكلمة، وكأنني على وشك تلقي أو إطلاق رصاصة، وإذا كان ذلك يرجع إلى ثقل الأمانة التي تلقيها الكتابة على كاهلي النحيل الشاحب فإن المفارقة أنني لا أملك أمام هذا الطوفان من التحدي الذي لا حطاط له إلا التعلق بقشة الكتابة... هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.



نادي السيارات

موقع الرياضية

موقع الأقتصادية

كتاب و أقلام

كاريكاتير

مركز النتائج

المعقب الإلكتروني

| الصفحة الرئيسية|| رجوع||||حفظ|| طباعة|

توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية إلىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية إلى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved