في الحلقة السابقة أشير إلى بعض الحوادث التي حدثت في القرن الثالث عشر الهجري - التاسع عشر الميلادي. وفي هذه الحلقة سيشار إلى حوادث وقعت في القرن الذي تلاه.
في عام 1319هـ - 1902م نجح الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - وكان في السادسة والعشرين من عمره - في انتزاع الرياض من عامل الأمير عبدالعزيز بن رشيد فيها؛ مبتدئاً بذلك أولى خطواته الموفقة في استعادة الحكم السعودي، وتوحيد مناطق البلاد، التي أصبحت تسمَّى المملكة العربية السعودية. وعوامل نجاحه فيما حققه من نجاح في ذلك التوحيد كثيرة. ومن هذه العوامل ما كان ذاتياً متَّصلاً بشخصيته القيادية العظيمة، ومنها ما كان عائداً إلى ظروف تمكَّن بحنكته ودهائه من استثمارها استثماراً جيداً. وليس المجال هنا مجال حديث عن تلك العوامل، غير أن من الثابت أن العامل الديني؛ سواء بتحلّي ذلك القائد بالتدين، أو بطرحه الدين طرحاً إعلامياً، كان من أهم عوامل نجاحه في عملية توحيد الوطن. ومن لا يعترف بذلك العامل، أو يقلل من أهميته، فإنه لم يقرأ تاريخ البلاد قراءة صحيحة أو تجاهل الحقائق.
وفي عام 1334هـ - 1916م أعلن الشريف الحسين بن علي، رحمه الله، الثورة على الحكومة العثمانية، واستقلال الحجاز عن نفوذها؛ وذلك بالتعاون والتنسيق مع قادة بريطانيا؛ واثقاً بمن هم لم يكونوا موضع ثقة، بل كان تاريخهم مليئاً بصفات المكر والخداع. وبعد عام من ذلك التاريخ اتضح نقضهم للوعود التي وعدوه بها؛ وهي إعطاؤه ما ينتزع من الأراضي العربية الواقعة حينذاك تحت السيطرة العثمانية ليكون ملكاً عليها؛ فقد فضحت الثورة البلشفية في روسيا - وكان المتنفذون من زعمائها يهوداً - اتفاقية سايس - بيكو، التي اتفق فيها على أن تقسم تلك الأراضي بين بريطانيا وفرنسا.
وفي العام الذي فُضحت فيه تلك الاتفاقية التآمرية صدر إعلان بلفور، وزير خارجية بريطانيا؛ متضمناً الوعد لليهود بمنحهم وطناً قومياً في فلسطين.
وإذا كان تصهين قادة أمريكا قد اتضح منذ أن دعا الرئيس الأمريكي، جون آدمز، عام 1818م، إلى إقامة حكومة يهودية مستقلة في فلسطين، فإنه لم يكن غريباً أن يؤيد الرئيس ولسون بعد مئة عام من تلك الدعوة؛ أي عام 1918م، وعد بلفور المشؤوم، ويلتزم بتنفيذه.
ومن المعروف ما اشتهر به الرئيس ولسون من المناداة بمبادئ ظاهرها الجمال؛ مثل احترام حقوق الإنسان، ومراعاة حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، لكن تأييده لوعد بلفور؛ بل والتزامه بتنفيذه، يتنافى مع ما كان ينادي به، ويبين أن ما يُنادَى به شيء وما يُطبّق شيء آخر؛ فمساعدة الصهاينة في اعتدائهم على حقوق الشعب الفلسطيني، وسلبه حقه في تقرير مصيره، كانت - وما زالت حتى الآن - أمراً لا يمكن أن يفرِّط به قائد من قادة أمريكا المتصهينين.
وفي عام 1341هـ - 1922م أقرَّت عصبة الأمم انتداب بريطانيا على فلسطين. وكان ذلك بداية مرحلة مهمة من المراحل التي مهدت للصهاينة كي يرسِّخوا أقدامهم في ذلك القطر العربي الإسلامي.
ولعل من أوضح الأدلة على نوايا بريطانيا السيئة، وعزمها على أن يتحقق في تلك المرحلة ما تحقق لأولئك الصهاينة من نجاح على حساب الشعب الفلسطيني أنها عيَّنت يهودياً صهيونياً ليكون أول مندوب سام لها في فلسطين؛ فكان (حاميها حراميها) كما يقول المثل الشعبي.
وفي ذلك العام قرر الكونجرس الأمريكي ضرورة منح اليهود إقامة حياة يهودية وثقافة خاصة في الأراضي (اليهودية القديمة) (هكذا)، وصدَّقت الحكومة الأمريكية رسمياً على وعد بلفور.
وفي شعبان من عام 1348هـ - 1930م تم القضاء على حركة التمرد، التي قام بها من قام من قادة الإخوان، ضد حكم الملك عبدالعزيز. وكان للإخوان بعامة دور كبير مهم في عملية توحيد البلاد، لكن من زعمائهم من اختلفوا مع الملك حول مسائل ليس المجال مجال تحدّث عنها، فتمردوا، وأدى تمردهم إلى حدوث معارك بينه وبينهم كانت باهظة الثمن، مؤلمة للقلوب.
وفي ذلك العام (1930م) تأسست (منظمة الاتحاد الأمريكي من أجل فلسطين)، وكان الهدف من تأسيسها الدفاع عن قضية الوطن القومي اليهودي في ذلك القطر العربي الإسلامي.
وفي عام 1351هـ - 1932م صدر مرسوم ملكي بتوحيد المناطق، التي تم توحيدها من الوطن على يد الملك عبدالعزيز، رحمه الله، قائداً لذلك التوحيد، باسم المملكة العربية السعودية، وأصبح لقبه ملك المملكة العربية السعودية. وبناءً على ذلك المرسوم، الذي عمل بموجبه اعتباراً من 22-9-1932م، صار حلوله يوماً وطنياً يسعد به الجميع ويقدرونه.
وفي ذلك العام اتخذ الكونجرس الأمريكي قراراً، أمضاه الرئيس في 21-9-1922م، لخطة الولايات المتحدة الودية نحو وطن قومي يهودي في فلسطين.
وفي عام 1357هـ - 1938م بعث الملك عبدالعزيز، رحمه الله، رسالة إلى الرئيس الأمريكي روزفلت، فنَّد فيها مزاعم الصهاينة بحقهم في فلسطين، وأوضح ما اتخذه الغرب من مواقف مجحفة بحق العرب، وبخاصة الفلسطينيين، مع وقوف هؤلاء العرب مع الغرب في الحرب، ووعود القادة الغربيين لهم بالإنصاف، لكن الرئيس الأمريكي أجابه برسالة قال له فيها: إن موقفه مضمّن في بيان وزارة خارجيته. ومما ورد في ذلك البيان:
(إن الشعب الأمريكي قد اهتم اهتماماً وثيقاً عدة سنين برقي الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وكل رئيس، ابتداء من الرئيس ولسون، قد عبَّر عن اهتمامه الخاص في مناسبة واحدة، أو مناسبات عدة، بفكرة وطن قومي، وأبدى سروره بالتقدم الذي وصل إليه إنشاء هذا الوطن.. وإن الحكومة الأمريكية - مع شعبها - قد راقبت بأشد العطف تدرّج الوطن القومي (اليهودي) في فلسطين، وهو مشروع لعب فيه الذهب ورأس المال الأمريكي دوراً رئيسياً).
وفي عام 1362هـ - 1943م انعقد مؤتمر برمودا بضغط من الرئيس روزفلت، وتقرر فيه فتح أبواب الهجرة أمام اليهود إلى فلسطين. وفي العام الذي تلاه رفضت أمريكا الكتاب الأبيض المحدِّد لتلك الهجرة.
وفي عام 1945م بعث السفير الأمريكي لدى المملكة، وليم إدى، رسالة إلى وزير الخارجية الأمريكية أخبره فيها بأن الملك عبدالعزيز قال له:
(شرف لي أن أموت شهيداً في ساحة القتال دفاعاً عن فلسطين في معركتها مع اليهود، وإن العرب لن يقبلوا أبداً بقيام دولة يهودية في بلادهم).
وفي عام 1947م دعا الرئيس الأمريكي، زومان، إلى تحقيق أكثرية يهودية في فلسطين، واضطر رئيس وزراء بريطانيا إلى قبول إدخال مئة ألف يهودي دفعة واحدة إلى تلك البلاد. وفي العام نفسه ضغطت أمريكا على بعض الدول حتى صدر قرار تقسيم فلسطين.
وفي عام 1367هـ - 1948م ردّ الملك عبدالعزيز، رحمه الله، على تهديد الحكومة الأمريكية للعرب، وتحذيرها لهم من التدخل في شؤون فلسطين أو إرسال قوات إليها، برسالة موجهة إلى تلك الحكومة كان مما ورد فيها:(كنت من قبل أشير على العرب بالتأنِّي، ولكن بعد وقوع ما وقع من سفك دماء النساء والأطفال ونهب الأموال لم أجد بداً من أن يقوم العرب بواجبهم.. وإن كان قصد الولايات المتحدة الأمريكية تحدِّي العرب، وقد تعمَّدت ذلك، فإن العرب يفضلون الموت على الحياة).
رحم الله ذلك البطل والقائد الفذّ. لكن شاعرين من أبناء أمتنا قد عبّرا عن جانب من جوانب هذه الأمة تعبيراً له ما له من المصداقية؛ فشاعر النيل حافظ إبراهيم قال في رائعة من روائعه: