| |
ذكرى دستور الكويت.. الاطمئنان والاحتقان السفير: عبدالله بشارة
|
|
في هذه الأيام تستذكر الكويت مناسبة وطنية في مصادقة المغفور له الشيخ عبدالله السالم على دستور الكويت، وذلك يوم 11 نوفمبر 1962، ومع إشادات صحفية ومقابلات وندوات حول معاني الدستور في حياة الكويت أتذكر أن أحد السفراء الأجانب سألني في بداية فترة عمله في الكويت عن المخزون التاريخي لدولة الكويت، فكان جوابي بأن حالتين صاغتا الكويت سياسياً وفكرياً والتزاماً وولاءً، الأولى الدخول في العمل الدستوري، والثانية الغزو.. الأولى جاءت بالدستور والثانية فجرت عمق الالتزام بالوطن، واكتشاف قسوة التشرد. والدستور في الكويت ليس جُملاً من أقوال مأثورة وليس ورقة وصايا، وإنما هو منظومة حياة تحدد مسار الواجبات والامتيازات، فالدستور عمَّق الولاء للأرض وغرس مبدأ المساواة، وفتح ممرات العمل الوطني، وأكثر من ذلك حقق الإجماع الشعبي التوافقي الذي هو قاعدة الاستمرار في مسيرة الكويت بروح الاطمئنان والارتياح. ومن يرد أن يتعرف على الكويت فعليه أن يرصد التزام أهلها بالدستور، وجرح أهلها بالغزو.. ومع ذكرى المناسبة جاءت مفردات معبرة عن علاقة الناس بالدستور، والجميع يتفق على أن الدستور هو الضمانة الوحيدة في تنظيم العلاقة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وأي تجاوز سيؤدي إلى خلل في تلك العلاقات ويولد أزمة في المجتمع، وترجمة ذلك أن الدستور خط أحمر لا يجب التعدي عليه كما جاء في بيان التحالف الوطني الديمقراطي. وفي هذه المناسبة لا بد من التحدث عن آليات الدستور: أولاً: أعتقد هناك تشابه في قراءتنا للتاريخ بين تجربة فرنسا وبين مسيرة الكويت.. في حياة فرنسا يقف الفرنسي أمام حادثتين، غيرتا حالة فرنسا: الثورة الفرنسية 1789، والاحتلال النازي الألماني 1940، وجعلت المواطن الفرنسي مهووساً في سلوكه وحياته بتأثيرهما. جاءت الثورة بفكر مغاير عما كان موجوداً في فرنسا وخارجها، وظل تأثيرها فعالاً في كل زوايا أوروبا، ومنها إلى العالم، وعندما نقرأ ميثاق الأمم المتحدة نقف في مضامينه على الكثير من القيم التي فجرتها الثورة الفرنسية. ويمكن القول بشيء من الخيال إن تأثير الدستور الكويتي محلياً وخليجياً فجر ميلاً صادقاً نحو التنظيم الديمقراطي ووعياً بقيمته في العمل الدستوري وذلك في تأكيد الاستقرار والاستمرار، وبدل ساحات العمل في الكويت بفتح أبوابها للجميع دون حصرها في النخب، وأخرجها من البيئة المالية والتجارية. ونقرأ في فرنسا الإصرار على الرادع النووي الفرنسي المستقل عن حلفاء الناتو، والخارج عن المظلة النووية الأمريكية، وقد كان الجنرال ديجول مهندس استقلالية الردع الفرنسي النووي، وأصر عليه، رغم الضغوط لأن ديجول عايش النازية واحتلالها لفرنسا وإهانتها للمجد الفرنسي وتراثه في الفكر الإنساني المستنير، ونرى الالتزام الفرنسي القوي بالردع النووي - رغم التبدلات العالمية - فالاحتلال الألماني النازي دمر الثقة بجسور الأصدقاء والحلفاء، ويمكن القول بشيء من الخيال أيضاً عن الكويت وتجربتها مع الاحتلال والغزو، فكل التوافق الشعبي الكويتي هو حول الردع المؤمن الذي يحمي الكويت. ثانياً: كما أشرت فإن الدستور الكويتي ليس أقوالاً وحكماً وإنما هو قواعد سلوكيات في فنون الحكم والسياسة والقضاء والإدارة، ولأنه ضوابط لا بد أن تتوافر له آليات التنفيذ، وآلياته هي المنابر السياسية سواء الأحزاب أو التجمعات ومنظمات النفع العام والهيئات المدنية، والصحافة الحرة، كل ذلك من أجل الرقابة والمتابعة، للاطمئنان على التنفيذ الواعي والمسؤول لبنود الدستور. والدستور عقد متكامل بين جميع العناصر التي تشكل الكويت، نظام الحكم وأهل الكويت ومؤسساتهم السياسية والمالية والقضائية كلها مرتبطة بوثيقة الدستور الذي يوفر الشرعية التاريخية ويؤمن الديمومة والاطمئنان. ثالثاً: نعترف بأن الدستور الكويتي - رغم سخائه - ترك بذور الاحتقان في العلاقات بين الحكومة وبين المجلس المنتخب، ولم يأت بالآلية التي تعطي السلطة التنفيذية الأغلبية البرلمانية المطلوبة، لكي تتمكن الحكومة من متابعة تنفيذ القرارات، وترك المجال هنا للاجتهادات ولما يمكن أن تفرزه التجارب، ونرى ما يمكن تسميته بالتسلط التشريعي على اختصاصات السلطة التنفيذية، في الحالة التي تعيشها الكويت منذ سنوات. ونرى تجارب الحكومة المتعددة مع توزيع الدوائر التي جاءت من الرغبة في الوصول إلى ترتيبات توفر للحكومة نعمة الاستقرار والاستمرار والتنفيذ. نرى ذلك في التبدلات التي أصابت نظام الدوائر، كانت عشرة ثم خمسة وعشرين، وخمسة مع المستقبل، وكل ذلك سببه البحث عن صيغة تزيل الاحتقان السياسي. وتجربة الكويت في العقدين الماضيين فيها تناقضات، ففيها التوافق في الأساسيات، وفيها التصادم في التنفيذيات، وهناك صون لضرورة الدستور، لكن هناك تجاوزاً على مبادئه، وابتعاداً عن روحه، أفرزتها الممارسات والتجارب، جاءت بالاستنفار القبلي وحركت الاستنجاد الطائفي، وأنجبت صراعات بين أطياف المجتمع. وكل ذلك وضع الكويت أمام سؤال مهم عن فوائد الأحزاب، أو ما يسمى بالوصفة التي لا غنى عنها في النظام الديمقراطي، وهي ولادة الحكومات الحزبية المالكة لشريحة الأغلبية. ومن المطالعات التي نتابعها، لا يوجد اجتماع حول حتمية الأحزاب، بل يوجد تباين حول أهليتها وفعاليتها في إزالة الاحتقان والتشابك. وسيستمر النقاش والجدل حول الأحزاب إلى ما شاء الله، ما لم يبرز إجماع وطني عام على جدواها. رابعاً: في مؤتمر جدة في خريف 1990، استوعب الدستور الكويتي كل الأطياف وجميع الاجتهادات في ولاء غير مسبوق لمعاني الدستور ولشرعيته ولما يرمز إليه من القبول والرضا الجماعي لقواعد العمل المستقبلي، ولا أنسى مداخلة المرحوم عبدالعزيز الصقر في ذلك الإجماع عند إشارته إلى الدستور ليس كحاضن لأهل الكويت وإنما منبع التحكيم ومصدر الاستهداء عند الاختلاف، وهو الذي عزز الهوية الكويتية في ولائها للتراب وللنظام، ولا ننسى أيضاً تأكيد المغفور له الشيخ جابر الأحمد في إشارته إلى أن عودة الحياة النيابية هي ثمرة الاتفاق في المؤتمر الشعبي في جدة. ولا ننسى كذلك عند الحديث عن الدستور أن دول الخليج هي ساحة التشابك الكويتي السياسي والمصيري.. نتابع التطبيق لبنود الدستور في محاولاتها استخلاص العبر وأخذ الدروس من تجارب الكويت. وعندما نقرأ وثائق البحرين السياسية الخاصة بنظام الحكم ووثائق قطر والإمارات نتوصل إلى حرص أهل الخليج على الابتعاد عن مطبات التجربة الكويتية ولا سيما تلك المتعلقة بحرية السلطة التنفيذية ومداخلات السلطة التشريعية في العلاقات بين الطرفين، وفي حقوق المنظمات الأهلية وحقوق النقابات. يقول المرحوم عبدالعزيز الصقر في خطابه في جدة: (إن استرشاد دستور الكويت لتجارب الدول الأخرى قد عزز هويته الكويتية الصادقة، فجاء بمنزلة عباءة سياسية كويتية النسيج والنموذج).. ومع استذكاري للمناسبة، ربما من المناسب الحديث عن وسائل الارتفاع بالممارسات السياسية.. هل الأحزاب تساعد في إخراج الكويت من الاحتقان المستمر؟ وهل يستوعب المجتمع الكويتي العنف السلوكي للأحزاب خاصة في مجتمع جديد على العمل السياسي وقليل الخبرة في ثقافة الأحزاب وبيئة المناقشات والتحاور وفنون المناورات؟.. ربما تبرر المناسبة الحديث عن ذلك علناً في المحاضرات والندوات التي تواكب هذه المناسبة.
abdullah_bishara@yahoo.com |
|
|
| |
|