| |
اليسر في قضاء رمضان د. محمد بن سعد الشويعر
|
|
لئن كان العالم الإسلامي قد استقبل رمضان، وفرح بمقدمه أكثر من (1200) مليون مسلم، فإنما هو سرور بالتنشيط على العبادة، وطمع في نفحات شهر الكرم والجود، الذي يسبغه الله على عباده المستجيبين العاملين، ونرجو أن يكون هذا الفرح مرسّخاً عندهم حبّ العبادة: عملاً وعقيدة، بعد رمضان، مثلما اجتهدوا في رمضان الذي مضت أيامه متسارعة، وهكذا أيام السرور قصار، إذ تسابق المسلمون، على اختلاف مواقعهم على البذل اليدوي، والجود البدني، والذكر والدعاء والتلاوة باللسان كل حسب استطاعته وقدرته، ما بين مكثر ومقلّ، والمحروم من حُرِم النتيجة الحسنة من هذا الشهر، مثلما أن الطالب والطالبة يندمان عندما تخرج النتائج المدرسية بالفرح للفائزين، وينذلاّن أمام أقرانهما نتيجة التفريط، فإننا قد ودّعناه - إن شاء الله - وداعاً حسنا بنتيجة أوضحها -صلى الله عليه وسلم-: (بأن الأجير يوفَّى أجره بعد انتهاء عمله) كما نرجو من العلي القدير أن تكون أحوال كل المسلمين بعد رمضان مستمدّة من الجهود التي بذلت في رمضان، لأن ربّ رمضان هو ربّ الشهور الأخرى، بما فيها من مناسبات، والله يحب من عباده العمل الدائم وإن قلّ. وإن ما بدا لي في الأيام القليلة التي مضت من شوال، تُبشِّر بخير لأن الخير في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم- يتواصل إلى يوم القيامة، ومن قال هلك الناس فهو أهلكهم، حيث يتواصى بعضهم مع بعض، وترقّ القلوب بعد كل مناسبة دينية، وتتحمّس النفوس عندما ينال بعض الأعداء من قداسة الإسلام، ويشتد الغضب عندما تصل الأمور سيد البشر الهادي النذير عليه الصلاة والسلام الذي لا تزيده نفثات الصدور الحاقدة إلا مضاعفة الأجر، وعزّاً للدين الذي أرسله الله به، ومن أبناء كثير من أمم الأرض حباً في تتبع سيرته العطرة، حيث كل يوم نسمع عن إسلام أعداد كبيرة بهذا السبب، في ردّ معاكس، نتيجة التعرف على سماحة نفسه الكريمة، والتبصر في تواضعه وتخفيفه على الأمة، فأدركت النفوس الصافية المتطلعة إلى استجلاء الخير، لتجد الرفق واليسر في دين الإسلام، مع اطمئنان القلوب، وفقاً لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ هذا الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) رواه البخاري ومسلم. ومن يُسر الله سبحانه على عباده المؤمنين أن خفّف ما لا يطيقونه عنهم (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(16) (سورة التغابن) وفي الصيام قال سبحانه: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (185) سورة البقرة، ويسر الله يأتي في كل شيء من العبادات وغيرها، فهو يريد منهم الصدق والإخلاص؛ لأن تكليفه لهم بقدر طاقتهم، (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (286)(سورة البقرة) ولما جاء الصحابة رضوان الله عليهم بعد نزول الآية 284 قبلها، جاءوا إليه وجثوا أمامه على الركب وهم يقولون: كل ما كلفنا به نطيقه إلا هذه الآية، فمن منَّا لا يخفي شيئا في نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم موطِّناً قلوبهم: قولوا آمنا بالله وبما أنزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم-.. ومازال يكررّها. فلمَّا قالوها خفف الله عنهم، ولمن يأتي بعدهم من أمة محمد، فنزلت في الحال بعد قولهم آية التخفيف، وعندها قرأها عليهم الرسول الرؤوف بأمته عليه الصلاة والسلام، وقالوها وفق ما قاله رسول الله لهم، وأمرهم به.. وبلغوا قول الله سبحانه (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) الآية.. قال الله سبحانه، في رواية ابن عباس: (قد فعلت)، ينظر في توضيح يسر الله.. ذلك تفسير ابن كثير آخر سورة البقرة (340- 343). أما عن يسر الله سبحانه على أهل الإيمان من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في الصيام، فيبرز في جوانب منها: 1- أن المسافر يفطر في سفره، فإن كان مقيماً ثم طرأ عليه السفر، فله أن يبدأ فطره بدءا من مغادرته بنيان بلده، لأن في السفر مشقة وحرجاً، وهذا من تخفيف الله على عباده، وإزالة الحرج، ويقضي من أيام أخر، حسبما يتيسر له خلال الأحد عشر شهراً، وقبل رمضان الآخر، فإن عجز وحالت أوضاع حتى جاء رمضان الآخر، فيقضي بعده ويطعم عن كل يوم مسكيناً، ويرى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: أن الفطر في السفر يستحبّ، وإن لم يشقّ الصوم، لأنه رخصة من الله، والله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تجتنب نواهيه (مجموع فتاوى ومقالات سماحته 15، 235 - 238). 2- والمريض الذي ينصحه الطبيب المسلم الثقة بأن الصوم يضرّ به فإنه يفطر، ويقضي من أيام أُخر كالمسافر. أما من لا يرجى برؤه، أو يشق عليه الصوم، فإنه يفطر ويطعم، ومثل ذلك الشيخ الكبير الذي يعجزه الصوم، فإنه يفطر ويطعم، وقد كان الإمام مالك رحمه الله، لما كبر يفطر ويطعم، لعدم قدرته على الصوم، وكذا القضاء، أما من أخَّر القضاء حتى فات رمضان آخر، وهو من أجل المرض، فإنه يقضيه،ولا كفارة عليه (المصدر السابق 15- 350). 3- وإذا مات المريض الذي أفطر في هذا المرض، فإنه لا قضاء عليه، ولا على وليه، فقد سئل ابن باز رحمه الله، عن حكم من كان مريضاً ودخل عليه رمضان، ولم يصم ثم مات بعد رمضان، فهل يقضى عنه، أم يطعم عنه؟ فأجاب: إذا مات المسلم في مرضه بعد رمضان فلا قضاء عليه ولا طعام، لأنه معذور شرعاً، وهكذا المسافر إذا مات في السفر، أو بعد القدوم مباشرة، فلا يجب القضاء عنه، ولا الإطعام لأنه معذور شرعاً، أما من شفي من المرض وتساهل في القضاء حتى مات، أو قدم من السفر وتساهل حتى مات، فإنه يشرع لأوليائهما القضاء عنهما للحديث: (من مات وعليه صيام صام عنه وليّه) متفق عليه، فإن لم يتيسر من يصوم عنهما، أطعم عنهما من تركتهما عن كل يوم مسكيناً، نصف صاع 1.5 كيلو على سبيل التقدير، كالشيخ الكبير العاجز عن الصوم والمريض الذي لا يُرجى برؤه. وهكذا الحائض والنفساء، إذا تساهلتا في القضاء، حتى ماتتا فإنه يطعم عنهما، عن كل يوم مسكين، إذا لم يتيسّر من يصوم عنهما. ومن لم يكن له تركة، يمكن الإطعام منها، فلا شيء عليه؛ لقوله سبحانه: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا )(286)(سورة البقرة) ولا بأس أن تدفع الكفّارة كلها لمسكين واحد (مجموع فتاوى سماحته 15 - 366- 367). 4- والحائض والنفساء، حكمهما حكم المريض، تفطران وتقضيان إذا زال العذر، لأنه أمر تشريعي من الله، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالتخفيف عنهما، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها: ما بال المرأة الحائض والنفساء تقضيان الصوم ولا تقضيان الصلاة؟ فأجابت: كنا نؤمر بذلك.. وهذا يدل على أهمية الاستجابة لشرع الله دون معرفة العلّة، وقد علّل ذلك بعض العلماء بسهولة قضاء الصوم لأنه لأيام الأعذار التي تتكرر في الغالب كل شهر وهي مدد قصيرة ولا مشقة في ذلك. أما الصلاة فإنها كثيرة لأن في كل يوم خمس صلوات، ويشق على النساء القضاء لكثرتها، فجاء التخفيف منها رحمة من الله وتيسيراً، علاوة على ما تتحمَّله المرأة من إرضاع وغيره. 5- وللمرأة في الصيام أحكام كثيرة يسَّرها الله عليها، سواء خافت على نفسها إذا كانت حاملاً أو على وليدها إذا كانت مرضعاً أو عليهما، نفسها وولدها جميعا، أو جامعها زوجها في نهار رمضان مكرهة، ومغلوبة على أمرها، من حيث القضاء والكفارة، مما يستحق حيّزاً مستقلاً. وكذا في مثل حكاية الرجل الذي جاء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: هلكت وأهلكت، ولما سأله الرسول الكريم عن السبب، قال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فحدّد له الكفارات واحدة بعد أخرى، حتى لم يستطع منها شيئاً فجيء للرسول بوسقٍ من تمر، فقال له: خذه وتصدّق به، فقال: والله ما في المدينة أهل بيت أفقر مني، فيسّر عليه الرسول الأمر وقال: خذه وأطعمه أهلك. وننصح الجميع بالرجوع لفتاوى الشيخ ابن باز لأنه رحمه الله يحرص على التيسير في فتاواه (الجزء الخامس عشر) الخاص بالصيام. كبش الفداء ذكر أبو العباس أحمد بن شملان في كتابه (القصص الميّه ما بين مضحكة ومبكية) قائلاً: إن مجموعة من طلبة العلم ذهبوا إلى منطقة العقيق بمحافظة صعدة في اليمن، ومع تجولهم في بعض القرى رأوا قبراً مطلاً على الوادي في رأس جبل، يقصده الناس وعليه قبّة مبنية، فسألوا عن شأن هذا الضريح فأخبرهم بعض الإخوة من أهل تلك البلاد وذكروا لهم قصته، وذلك أن الناس كانوا قد أصابهم القحط، في تلك البلاد، ومضى عليهم ما يقارب ست سنين بدون مطر حتى صار الناس في كرب وشدّة، فبينما هم على تلك الحالة إذ قدم عليهم رجل من آل البيت المسمَّون بالسادة، عابر سبيل فنزل ضيفا عندهم ووافق مجيئه نزول المطر بغزارة، واستمر المطر في حالة جلوسه عندهم، ابتلاء وفتنة.فاعتقدوا بجهلهم العميق أن الرجل سبب المطر والخير، فحبسوه عندهم وأكرموه، واعتقدوا حلول البركة فيه، فلم يأذنوا له بالذهاب، وقد اشتدّ شوقه لأهله وأولاده، فحاول المشي فلم يستطع، لإصرارهم على بقائه بزغم أن البركة فيه، وأن له تأثيراً على نزول المطر، ثم حاول الهروب، فلما وجدوا ذلك منه، وضعوا عليه من يحرسه، فحاول مرة أخرى الهروب ليلاً فأدركوه، وقد أعياهم أمره، فاجتمعوا وتشاوروا في أمره وأجمع أمرهم على ذبحه، وجعله في مكان وتبنى على قبره قبة ويزار، ليدوم الخير ببقائه، ولو ميّتاً في زعمهم. هذا والرجل لا يعلم ما يخطط له، ولم يكن منهم رجل رشيد، يعلم أن خطورة المعاصي هو سبب العقوبات والنكبات، فنفذوا ما أجمعوا عليه، فذبحوه، وصار كالشاة لا قيمة له عندهم، غير أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولما تم لهم ما أرادوا من قتله، اختلفوا أين يدفن، وكادوا أن يقتتلوا فيما بينهم، كل واحد يريد قبره عنده، لتنزل البركة، ويحلّ الخير، ثم قال شيخهم وهو أرشدهم في زعمهم: أرى أن يدفن في رأس الجبل، وتبنى عليه قبّة فإذا جاء المطر، تفرق من الجبل إلى الوادي كاملا، وتمّ الأمر حسب هذا التقرير ففعلوا، وصار يعبد من دون الله، ولم يعلم أهله أين ذهب، ولا في أي وادٍ هلك. ثم قال المؤلف: فاعتبر أخي المسلم الكريم، بهذه الحادثة المؤلمة التي أنبأت عن جهل مُطبقٍ، وعمى ظاهر في أقوام يدَّعون الإسلام، فصارت فتنة لكل مفتون، وعبرة لمن اعتبر، فقد أسفر جهلهم بأن يئسوا فأشركوا، وقتلوا النفس المحرمة، ودخلوا في الَّلعنة ببناء القبَّة على القبر، واستمرّوا في محاربة الله، وتركوا ربّ الأمطار، وتمسكوا بمخلوق ضعيف، ما استطاع أن يدفع عن نفسه شرّهم، فضلاً عن نفعه لهم، فنعوذ بالله من الجهل. (القصص المئة ص 42- 44)
|
|
|
| |
|