| |
الحبر الأخضر عشاق الظل د. عثمان بن صالح العامر
|
|
هناك شريحة من الناس تعشق البقاء في الظل حتى لو كانت درجة الحرارة تحت الصفر وقد تجمد كل ما حولهم ومن حولهم.. لا يهم، المهم أنهم هم ما زالوا على قيد الحياة يغدون في الصباح ويروحون عند النهاية.. في المقابل هناك نمط آخر لا يرتاح ولا يهدأ له بال ولا يستقر له قرار حتى يكون في النور، وأغلى أمانيه البقاء تحت أشعة الشمس الحارقة مهما كانت درجة الحرارة، وعند المساء تُسلط عليه الأضواء مهما كانت قوتها، يهوى الرقي إلى الأعلى وبأي ثمن حتى إن كان السلم الذي سيتخذه للصعود جماجم الآخرين، وتشويه سمعة زملائه المقربين، وعرق جبين المخلصين من أترابه وبني جلدته، يقدم نفسه بمناسبة وبغير مناسبة عبر وسائل الإعلام المختلفة وفي المناسبات الاجتماعية صغيرة كانت أم كبيرة، ويطرق الأبواب صباح مساء ليقول: إنني هنا ورهن الإشارة على الدوام {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، استأجرني {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}، وحين السؤال عنه أو تتبُّع سيرته الوظيفية ومساره الأكاديمي وسلوكه الذاتي يظهر العجب.. وهذا النمط من بني البشر لا يهمنا هنا؛ لأننا نتكلم عن الضد - عشاق الظل - والذين هم - في نظر البعض - أندر من الكبريت الأحمر في الزمن الفائت.. يحتاج مسؤول ما إلى أحد القدرات المتميزة لديه ليسند إليها مهمة إدارية جديدة، ولتكن مدير إدارة ذات شأن في إحدى الوزارات، أو عميد كلية في إحدى الجامعات، أو رئيس قسم في إحدى الإمارات أو... علا المكان أو قصر، فيعرض الأمر على من يتوخّى فيه الثقة والإخلاص والأمانة والحرص والوطنية والتفاني، مستنداً في ذلك إلى تاريخه الوظيفي وخبرته الإدارية وشهادته العلمية ومعرفته الشخصية الواسعة به مع عدم إغفاله قول مَن استشارهم فيه، وربما استخار في الأمر قبل أن يتفوّه به.. ويفاجأ حين عرضه الأمر على صاحب الشأن بالرفض مباشرةً، بل وبالطلب الصريح والمؤدب بعدم التفكير في هذا الأمر مع جزيل الشكر والتقدير على هذه الثقة الغالية.. يطلب منه المسؤول أن يفكر في الأمر، أن يكون مشاركاً في تحقيق المصلحة العامة ولو كان ذلك فيه تضحية منه بعض الشيء.. أن يستخير ويستشير من يثق به.. يبدي له النصيحة الصادقة والرجاء الحار حرصاً منه على المصلحة الوطنية العامة ورغبة صادقة في الاستفادة من إمكانياته في سدّ هذا الفراغ بالكفء أمانة وقوة وقدرات.. وسرعان ما يقاطعه صاحبنا بصريح العبارة إن كان ذا عشرة معه طويلة والتكلُّف بينهما مرفوعاً: هذا الموضوع لا يحتاج مني لا استشارة ولا استخارة؛ فهو مرفوض جملةً وتفصيلاً إذا كان الأمر لي، أما جبراً وليس لي فيه رأي فسمعاً وطاعة ومن الغد أنفّذ؛ فأنت صاحب القرار النهائي.. ويتساءل المسؤول: ولكن لماذا - يا هذا - هذا الرفض القاطع والحاسم للأمر برمته مع أن البعض يتهافتون عليه ويستدرون المشاعر من أجل الظفر به؟ وبلا تروٍّ ولا تفكير يرد عليه صاحبنا سريعاً وهو يحرّك يده بانفعال وبلهجة عامية معبّرة: يا رجال فكنا، وبعدين إذ صرت مدير ماذا يعني؟ لن يضيف لي شيئاً.. ومثلك عارف من بغاك ما عذرك.. ومرضي الناس كايد.. والناس ما ترحم.. وش لي بوجع الرأس.. والراحة نصف القوت.. والسلامة مكسب.. وقد يردف القول بما يرضي غروره وبصورة مبطنة: وأنا وش عندي جديد خلاف ما عند بقية الزملاء.. أو يصدم المسؤول في قناعاته قائلاً: إنني لا أصلح في هذا المكان المرشح له، ولن أخدم العمل بالشكل الذي تتوخاه.. وهو في قناعته الذاتية أن الأمر خلاف ما يتفوّه به، وقد يعقد مقارنة سريعة مع من سبقه في هذا المكان ممن يعرف حالهم قائلاً بصيغة الاستفهام الإنكاري: وش استفادوا اللي قبلي؟.. وما ماثل ذلك من الكلمات الدارجة في مثل هذه المواقف التي تصبّ في النهاية بالرفض التام مهما كان الثمن نتيجة الخوف الشديد من المجتمع وخشية الخسارة الاجتماعية تحت أي ظرف من الظروف أولاً والرهبة من التغيير للحال التي هو عليها منذ سنوات طويلة ثانياً وحسبتها حسبة مالية صرفة ثالثاً وما إلى ذلك.. مع أنه إدارياً يملك كل المقومات التي تؤهله للنجاح وبتميز في المكان المرشح لشغله، الأمر الذي يضطر معه متّخذ القرار إلى البحث عن البديل وإن كان أدنى مؤهلاً وأضعف مهارة وأقل خبرة، والنتيجة الطبيعية معروفة للجميع، وخصوصاً المهتمين بالشأن الإداري أكاديمياً ووظيفياً.. ويبقى السؤال المهم في نظري: كيف تستفيد مؤسساتنا الحكومية بصورة كاملة من أولئك المحجمين عن تسنّم المناصب القيادية الراغبين البقاء في الظل ولو تجمّد كل شيء وبقي على حاله بلا تجديد أو تطوير.. ولو كان الضحية مجتمعهم.. ولو دفع الثمن أبناء هذا الوطن الذي يشرف الجميع ببذل كل ما يستطيعون من أجل الانتظام في منظومة العاملين بإخلاص رغبةً في خدمته وفي سبيل رقيه وضمان مضيه في الإصلاح والبناء بقيادة راعي مسارنا النهضوي الرائع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وفقه الله وحفظه ورعاه؟ هل الحوافز المالية كافية للتحرك أم أن هناك حوافز معنوية تضاف إلى أختها وبهما ستقلب الطاولة وسيكون الثمن إنتاجية أفضل وعطاءً أكثر وجدية وسرعة وإتقاناً في العمل تحت القيادة الأكفاء؟ الجواب باختصار: نعم، ولنا في القطاع الخاص الخارجي قبل الداخلي عبرة وعظة.
|
|
|
| |
|