| |
البحث عن الأسباب الحقيقية قبل الشجب والاستنكار الغلو والتطرف.. أزمة فكرية أم قضية مجتمعية؟!
|
|
* الجزيرة - خاص: التجربة المريرة والأليمة التي مرت بالكثير من مجتمعاتنا الإسلامية، من جراء ظهور أفكار الغلو والتطرف، والتكفير والتفجير، ليست سهلة، وإذا لم تتخذ الإجراءات الوقائية على كافة المستويات، لمواجهة هذه الظواهر الشاذة، فمن الممكن أن تظهر بين حين وآخر، ولذا كان اعتماد استراتيجية شاملة تشارك فيها كافة مؤسسات وقطاعات المجتمع، أمراً ضرورياً لتحقيق الوقاية. ولكن يبقى السؤال المهم والضروري، حتى نستطيع أن نواصل الاستراتيجية المواجهة للفكر المتطرف، هل الغلو والتطرف أزمة فكرية أم أزمة مجتمعية؟! (الجزيرة) حاولت أن تغوص في عمق المسألة في هذا التحقيق. فقه النهضة في البداية يقول الدكتور مسفر بن علي القحطاني رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن: يشكل التطرف الفكري أزمة حقيقية للفكر، فضلاً عن أزماته الأخرى، إذا تجسد في أرض الواقع، ولكي نبحث عن مخرج لهذه الأزمة الفكرية، يجب أن نحلل الأسباب، ونتتبع الجذور التي أدت إلى هذا التطرف من مجتمعاتنا الإسلامية على وجه الخصوص، ونظراً لأهمية هذا التحليل، ودورهم المرتقب في تشخيص العلاج المناسب، كان الواجب أن يتولى هذا الدور العظيم مؤسسات متنوعة، بجهود جماعية منظمة، لا أفراد أو خبراء مهمابلغ تكوينهم الفكري، ومع تلك الأهمية - من وجهة نظري - فإني لا أعفي نفسي من التنظير حول بعض مفاهيم الفكر المتطرف المحلي، ربما كان المسوغ لذلك المعايشة الواقعية، والتتبع التاريخي لمسيرته في مجتمعنا السعودي. وبإجمال مبتسر - يكفي للإشارة حول هذه القضية الشائكة - أرى أن الممارسات الفكرية المنافية للموضوعية مهما صغرت، لا ينبغي أن يستهان بها، حتى لو كانت آثارها المبدئية ضعيفة، فقد تنمو مع مرور الزمن لتصبح أكثر بعداً عن الوسطية والموضوعية، معلنة نشأة التطرف بكل أطيافه الفكرية، فالتعصب للأفراد أو المذاهب أو الجماعات، يجعله لا يرى الحق إلا من خلالها، ويصادر بالتالي عقله، ويفكر بمنطق غيره، ويرفض كل رأي يخالف ما تعصب عليه من رأي أو طريقة، مما يزيد هوة الافتراق في المجتمع، وربما يؤول الوضع إلى تنازع واقتتال بين أفراد المجتمع الواحد. النظر العاطفي المجرد ويستطرد د. القحطاني بقوله: إن المبالغات التي أصبحت سمة للفكر المتطرف تجعله يبالغ في ذم من يخالفه إلى درجة الإسقاط والإقصاء، وفي المقابل المدح والثناء على من يوافقه لدرجة التقديس والتنزيه عن الأخطاء، وهذا ما قد يؤدي في المستقبل إلى نشوء عقليات لا تنظر للحقائق إلا من خلال النظر العاطفي المجرد، وهذا ما أورث الأمة الكثير من الفتن والرزايا والثورات المسلحة، أو ساهم في بناء عقليات لا تنظر للقضايا أو الواقع أو حتى الشرع إلا من بعد واحد، وتصر على أن هذا الجزء هو الحقيقة المطلقة، مع أن رؤية نصف الحقيقة شر من الجهل بها، لأنها توجد إنساناً يظن أنه يعرف كل شيء وهو لم يعرف إلا الجزء الذي يجعله مسماراً في آلة كبيرة دون أن يعرف شيئاً عن تلك الآلة. وأهم ما يساعد على نشوء هذه العقليات ذات البعد الواحد، سواء كانوا من المتطرفين أو من غيرهم، فقر البيئة الطبعيية أو الثقافية بمعنى ضعف الخلفية العلمية والمنطقية لتحليل المشكلات، وعلاج الأزمات، فيكون تفكيره لا يخرج عن ذلك الإطار الضيق الذي يشكل حصيلته المعرفية وخبراته الحياتية، ولهذا ألزم العلماء من يجتهد في أحكام الشريعة أن تتحقق فيه الكثير من الشروط العلمية والفكرية ليستجمع أدوات الصحيح، والمعرفة الشاملة. ولاشك إن عقلية البعد الواحد يصعب عليها أن تحاور في هدوء أو تسمع النقد المقابل دون تشنج، لأنها اعتادت أن تنظم لنفسها نظرة اعتدال وكمال، واحتكار للحق والصواب، وكل من خالفها لن يعدو أن يكون ناقص فقه أو دين، إن تبسيط الأمور العظيمة، والمشكلات المزمنة دون العمق في النظر والتحليل المنطقي لها سمة لأهل التطرف والغلو، بالإضافة إلى الانغلاق التام نحو الاستفادة من الثقافات، أو العلوم الأخرى المعنية في ذلك، وهذا لن يزيد قضايانا إلا إشكالاً ورجعية. إن هذه الممارسات الفكرية، وإن ظلت في الخفاء، أو لم تسهم في إثارة عنف أو تدمير في الواقع، لا ينبغي لنا تجاهلها أو الغض عنها، فمعظم النار من مستصغر الشرر، والواجب على مؤسسات المجتمع المختلفة أن تعيد صياغة الذهن، وتنمية الوعي بالتفكير الموضوعي، وتعميق الحوار، وتعليم أدب الاختلاف، والإسهام بإيجاد مناهج تعليمية تطور هذا النمط من التفكير والتعليم، فالتطرف الفكري أصاب الكثير من المجتمعات على مستوى العالم، ولكن آثاره تختلف من مجتمع إلى آخر حسب مستوى الوعي لدى الأفراد والمسؤولين، ولهذا لا ينمو إلا في مناخات العقول ذات البعد الواحد. علاج التطرف ويؤكد د. القحطاني أن علاج ظاهرة التطرف في المجتمعات الإسلامية تشكل أولوية لدى صناع القرار، وذلك للآثار الخطيرة الناجمة عنها على مستوى الفرد أو الدولة، ولا خلاف في أهمية صناع القرار، وذلك للآثار الخطيرة الناجمة عنها على مستوى الفرد أو الدولة، ولا خلاف في أهمية الاحتياطات الأمنية لتضييق انتشار هذا الفكر، والحد من خطره، إلا أن عجلة التنمية ودولاب النهضة لا ينبغي أن يتوقف إلى حين القضاء عليها، وإشاعة فقه النهضة والمدنية يعتبر من الضروريات في المرحلة التي نعيشها هذه الأيام، مما يجعل الكل يسعى للبناء، وينظر للمستقبل، ويتنافس مع الآخر في مدارج الحضارة والتقدم. لقد مرت كثير من الشعوب بأزمات فكرية، وتقاطعات عنيفة في الرؤى، والتوجهات الاجتماعية والسياسية، ولكن خيار التقدم والنهضة لم يكن ضحية لهذه الخلافات، بل نجدهم يسارعون في الانسجام والاتفاق عما تهدد حضارتهم و يسلب تقدمهم، ومن الأمثلة على ذلك في وقتنا المعاصر، دولتا الهند والصين، فلا اعتقد أن دولاً تزخر بالأعراق والأديان والخلافات المذهبية والظروف الاقتصادية الصعبة في ظل انفجار سكاني رهيب، ما يوجد في هذين البلدين، ومع ذلك فقد بلغ النمو الاقتصادي في الهند عام 2003م، ما نسبته 8%، وهو معدل مرتفع وفق المؤشرات الاقتصادية العالمية، أما في الصين فقد أنجزت خلال الخمسين عاماً الماضية إنجازات هائلة تجاوزت بذلك كل الظروف الاستثنائية، فقد بلغ الناتج القومي عام 2000م، ألف مليار دولار، وبلغ احتياطها من العملات الصعبة 60 مليار دولار، لتحتل المرتبة الثانية في العالم، كما ودع 200 مليون فرد الفقر خلال العشرين سنة الماضية، أي ما يساوي عدد سكان أمريكا مجتمعين. إن إشاعة فقه النهضة، والدخول في خيارات التنمية، هو ما ينبغي إثارته في كل أطروحاتنا حول التطرف وأزمته الراهنة، وأعتقد أن هذا هو ميدان العمل، والحرث، والإنتاج لنخبنا المثقفة، بدلاً من التمحور في أبراج التنظير العاجية، وتسويق الحلول الآنية، فهل نعتبر فقه النهضة مشروعنا القادم للخروج من أزمة التطرف، وإشكالاتها المتعددة؟ الجهل بالشرع أما الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فيكشف أن أسباب ظهور ظاهرة التكفير، وانتشارها عديدة، في النقاط التالية: أولاً: الجهل الذريع، وربما الجهل المركب بهذه المسألة المهمة، في معرفة الكفر في موارد أدلة الوحي الشريف، والفرق بين الكفرين الأكبر والأصغر، وحال أصحابها من جهة اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، والفرق بين الكفر المطلق والكفر المعين، والكفر الدنيوي والحكم لأصحابه بالخلود الأخروي بالنار. ثانياً: اتباع الهوى، والأغراض النفسية في تكفير المخالف، وذمه، والقدح في عرضه بالكفر، دون تبصر بالعلم، وتورع بالديانة. ثالثاً: اتباع المذاهب البدعية، والأقوال الشاذة، وتقليد الأصاغر بالعلم والدين، في إطلاق الكفر على الدول والمجتمعات والأفراد. رابعاً: الاستهانة بمحارم الله، وأحكام شرعه، وعدم الأخذ على يد المكابر والمعلن بقالة الكفر، وأطره على الحق أطراً بقوة البرهان والسلطان! إلى غير ذلك من الأسباب، مع الأخذ بالاعتبار أن كل سبب من هذه الأسباب يحتاج بسطا في العرض والتحليل وضرب الأمثلة والتدليل.. الخ. أما أهم آثار انتشار ظاهرة التكفير والتبديع والتفسيق، هو فشو الجهل وخفاء العلم بالدين، عقيدة وشريعة، وتشويه سماحة الإسلام وعالميته، كذلك أهم الآثار اختلال الأمن العام للمسلمين، وغيرهم: الأمن العقدي، والأمن الديني، والأمن الاجتماعي، والأمن السياسي، والأمن العسكري، والأمن الأسري، والأمن النفسي، ولاسيما على العقل والدين والعرض والنفس والمال، وهي الضرورات الخمس التي أجمعت على حفظها شرائع الله قاطبة، والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول :(كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)، وفي حجة الوداع في يوم عرفة قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا). علاج الظاهرة ولعلاج هذه الظاهرة يقول د. علي الشبل: في فشو قالة التكفير أو التبديع والتفسيق بين الناس، ولاسيما المتعالمين أو المتعجلين، أحكامهم أو الجاهلين بها، هو بعلاج النبي صلى الله عليه وسلم وعلاج أصحابه رضي الله عنهم لظاهرة الغلو في الدين، والتجافي عن منهاج العدل والوسطية عقيدة وقولاً وعملاً، ويتأتي ذلك بوسائل أهمها فيما يبدو لي: أولاً: نشر العلم الصحيح الموروث عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، بالوحيين الشريفين، وعلى نبراس من فقه السلف الصالح من لدن الصحابة، فالتابعين، فعلماء الأمة الفحول - رضي الله عنهم ورحمهم - والقضاء بالتالي على الجهل أو محاصرته، وهو بيئة التكفير التي يترعرع فيها. ثانياً: معالجة الظواهر الفردية بالحكمة والبصيرة اللائقة بها زماناً وواقعاً وحالاً، ويتأتي هذا بالعلماء الراسخين، والحكماء ذوي العقل والفطنة. ثالثاً: قيام الحاكم الشرعي، والعالم الرباني، والمربي الواعي، كل منهم بواجبه المناط به ديانة وأداء للأمانة الواجبة، وإبراء للذمة، ونصحاً للأمة، أعذاراً وإنذاراً.. ثم ثمة علاج خاص لمن وقع في شباك هذه الفتنة من خلال مسلكين رئيسيين: أحدهما بالرفق واللين والتوجيه والتربية وحسن البيان لمن اشتبه عليه الأمر أو ادلهمت عليه الشبهات، ولا يتأتى هذا إلا على يد ذوي العلم والغيرة الراسخين، والثاني: بأسلوب مقارعة الحجة ودفع الشبهة، والتأديب والتعزير اللائقين في المعاند والمكابر، ومن على شاكلة هؤلاء، وهذا مناط بالقضاة والعلماء. المجاهرة بالكلام ويؤكد د. الشبل أن هناك من يجاهر بكلام يصل إلى الكفر أو يدل على الردة عن الديانة، والزندقة في الملة، بأن يدل على رقة الدين وضعفه في قلبه أو اضمحلاله، ثم يولد ردة فعل عكسية بتكفيره إما مقالة أو عيناً فهذه الظواهر الاستفزازية من أولئك مصورين أهم مصادر التكفير والتبديع.. والموقف مع هؤلاء له مراتب وأحوال، فمن ذلك النصح لهم ودعوتهم، ثم الإنكار عليهم قولهم بالأسلوب اللائق، وكل مقالة يتفوه بها كل منهم، ومن ثم من لم يتب منهم ويرجع عن غيه، فبإقامة حكم الشرع عليه دون مجاملة ولا محاباة لأحد في دين الله عز وجل، ولاشك أن لجانب القضاء الشرعي في بلادنا النزاهة والتثبت والنظر العلمي المعتبر من عدة مستويات من المحاكم الكبرى، فالتمييز، فمجلس القضاء الأعلى، وهذه الدوائر القضائية الكبرى تبلغ أقصى مدى ممكن لتحري العدل والحق، وإنفاذهما، كما ويجب على مسؤولي الإعلام تقوى الله، وأن لا يؤذوا عباد الله بمثل تلكم المقالات والطروحات الخطيرة التي تستفز دين الأمة وعقيدتها، وأن تحترم ذلك كما تحترم سياسة دولتها. هذا والمسلم العاقل له في الناس كل الناس نظرتان: الأولى: أن ينظر اليهم بعين الحكم الشرعي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبراء، والنصح والدعوة لكل بحسبه، والثانية: أن ينظر إليهم بعين القدر والقضاء، فمن كان منهم منحرفاً بأقواله أو أفعاله أو عقيدته رحمه بذلك، وحمد الله أن لم يكن مثله، وأن الله قد عافاه مما ابتلي به غيره، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف شاء. لو شاء ربك كنت أيضا مثلهم إذ لا ترد مشيئة الديان تجلية الموقف الشرعي ويشير د. محمد بن سعيد السرحاني الأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى لمواجهة تلك النازلة التي حلت بعدد من المجتمعات الإسلامية والمتمثلة في خروج بعض الأفراد والجماعات عليها، وفي ضوء منظومة الإصلاح الشامل الذي تنادى به الحكومات الإسلامية نقترح حلولاً نجملها في النقاط التالية: أولاً: بيان الحكم الشرعي للخروج على الأئمة المسلمين والمفاسد المترتبة على ذلك الخروج والتأكيد على حقوق ولاة الأمر، وذلك من خلال مناهج التعليم ومنابر الوعظ ووسائل الإعلام المختلفة، مع بيان الحد الفاصل بين الخروج على الأئمة والولاة ومناصحتهم. ثانياً: تجلية الموقف الشرعي من عقيدة الولاء والبراء مع إيضاح الحدود والفوارق بين حرمة تولي الكفار ومحبتهم وبين إمكانية التعامل معهم وحفظ حقوقهم وفق الضوابط المؤصلة في شريعتنا. ثالثاً: بسط وتجلية مراتب إنكار المنكر وحدود ومسؤولية كل فرد في الإنكار، مع التأكيد على هذا الأصل الشرعي وفق فهم وفقه جلي للدعوة إلى الله تعالى. رابعاً: تعميق ثقافة الحوار وآداب الحوار في المؤسسات التعليمية وعبر وسائل الإعلام المتعددة. خامساً: بيان وتجلية فقه الاختلاف والضوابط الشرعية في التعامل مع المخالف. سادساً: إنشاء قيم التسامح والتعاون بين أفراد المجتمع وإطفاء شعلة الخلاف ودرء أبواب الفتن. سابعاً: تكثيف دور الأنشط الشبابية في إشغال أوقات الشباب فيما يعود عليهم بالفائدة وفق برامج علمية ومنهجية مدروسة. ثامناً: توفير أسباب العيش الكريم لسائر أفراد المجتمع والعمل على الحد من ظاهرة البطالة، وسد منابع الحاجة والفاقة، والقضاء على جملة الأسباب التي يمكن أن تجعل من الحرمان سبباً من أسباب ازدهار ظاهرة التطرف والخروج على المجتمع. تاسعاً: الانطلاق من خلال مكانة الدولة المرموقة والمؤثرة في المجتمع الدولي وثقلها الاقتصادي والعمل على إيجاد حلول عادلة ودائمة لأمهات القضايا الدولية الراهنة، وخصوصاً ما يتعلق بالانتهاكات الغربية لحقوق المسلمين والتي تؤدي إلى إثارة الفتن، وينتج عنها ردات فعل كان من أبرزها ظهور هذه النازلة التي نحن بصددها. نسأل الله العظيم أن يرد ضال المسلمين وأن يشرح قلوب شباب المسلمين إلى الحق، وأن يرد كيد الكائدين وأن يرفع الظلم والذل عن بلاد المسلمين.
|
|
|
| |
|