| |
فيض الضمير العلاقات السعودية اليمنية (4-8) من اتفاقيات الجوار إلى الشراكة الاستراتيجية د. محمد أبو بكر حميد
|
|
بدأت العلاقات السعودية اليمنية تاريخها الحديث في عهدي الملك عبدالعزيز والإمام يحيى حميد الدين، وقد خاض كل منهما صراعاً تاريخياً مديداً من أجل توحيد بلاده واستعادة ملك آبائه تحت راية واحدة وهي راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله). فقد قاد الإمام يحيى الثورة على الأتراك، واستطاع تخليص اليمن من قبضتهم في هزيمة كبرى شهيرة سميت اليمن بعدها (مقبرة الأناضول)، وكانت هزيمة الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى قد هيأت الظروف لهذا الواقع الجديد، فدخل الإمام بحيى صنعاء منتصراً سنة 1337هـ (1919م) معلناً قيام المملكة المتوكلية اليمنية. وفي الوقت نفسه كان الملك عبدالعزيز يخوض معاركه التاريخية ضد أعدائه والمناوئين له والمتربصين به حتى استطاع أن يوحد أجزاء بلاده ويعلن قيام المملكة العربية السعودية سنة 1351هـ (1932م). كانت الظروف التاريخية التي ظهروا فيها متشابهة، فقد بدأ الملك عبدالعزيز كفاحه سنة 1902م، وبدأ الإمام يحيى سنة 1904م خلفاً لوالده. كان الاثنان شباباً، وبدآ كفاحهما بطموحات كبيرة وأهداف استراتيجية واحدة، وكان من الممكن أن يتحقق أكبر حلم في تاريخ العرب الحديث في الجزيرة العربية تحت هذه الأهداف على أن الخلاف بين الشخصيتين كان كبيراً. كان الملك عبدالعزيز زعيماً سياسياً ودينياً محنكاً واسع الطموح، عالي الهمة، مؤمناً بأهدافه يحققها أو يموت دونها، حكيماً في سياسته، حليماً ومتسامحاً مع أعدائه، بعيد النظر، لا يكذب، إذا وعد وفى، لا يعرف المراوغة والدسيسة، كريماً حتى مع الخارجين عليه والكائدين له، فاستطاع بهذه الصفات، لا بقوة السيف وحده، فحسب، بل بالحلم والمروءة والكرم، أن يذيب عدة ممالك صغيرة في دولة مركزية واحدة، ويوحد قبائل نجد والحجاز مع غيرها من قبائل الشمال والجنوب، وينشئ مجتمعاً جديداً تسوده أنظمة الدولة لا أعراف القبيلة. وكان بإمكان الإمام يحيى أن يوحد شتات اليمن ويقيم دولة كبيرة فيها لو حرر الجنوب من الإنجليز وقاد الكفاح ضدهم، وكان بإمكانه أن يلعب أدواراً مهمة في السياسة العربية والدولية كالتي لعبها الملك عبدالعزيز، لكن ضيق أفقه وقصور همته رغم ذكائه كانا حائلين دون تحقيق إقامة دولة قوية موحدة في اليمن. وعلى عكس الملك عبدالعزيز الذي انفتح على العالم وأدخل إلى بلاده أساليب الحياة الحديثة، وشارك بمواقفه العروبية والإسلامية في التأثير على السياسة الدولية. أغلق الإمام يحيى بلاده دون العالم الخارجي، ومنع كل أسباب الحياة الحديثة من دخولها، وامتنع عن المشاركة في الأحداث الجارية من حوله عربياً وإسلامياً ودولياً. وحين نتأمل الظروف التاريخية في هذه المرحلة وإمكانية استثمارها لصالح العلاقة بين الجارين الشقيقين نجد الظروف كانت مهيأة لتحقيق الشراكة الاستراتيجية بينهما على كافة المستويات، فقد كانت اليمن والسعودية الدولتان العربيتان الوحيدتان المستقلتان في العالم العربي، وكان من الممكن أن يشكلا نموذجاً لسياسة واحدة عربياً وإسلامياً ودولياً، وكان الملك عبدالعزيز الذي مد يده بالسلام لكل الذين اختلفوا معه أو حاربوه على استعداد لتوطيد الأواصر مع اليمن الجار الشقيق. ولكن الإمام يحيى لم يستغل فرص السلام التي عرضها عليه الملك عبدالعزيز، وكان يؤخر الوفود التي يرسلها له الملك عبدالعزيز للتفاهم وحسم الخلاف بالشهر والشهرين في صنعاء لتعود بخفي حنين كما هو معروف في كتب التاريخ. ونرى أن الإمام يحيى ارتكب خطأين استراتيجيين في سياسته الخارجية تجاه دول الجوار وبخاصة المملكة العربية السعودية أولهما أنه بدلاً من أن يتحالف مع الجار الأكبر والأقوى الذي كان يمد له يده، تحالف مع الأشراف في الحجاز الذين كان ملكهم على وشك الزوال. ثانياً أنه بدلاً من أن يحقق طموحه في توسيع رقعة دولته، ويعمل على إخراج الاستعمار البريطاني من الجنوب, الأمر الذي سيلقى تأييد الملك عبدالعزيز وتعاطفه لأنها قضية عربية إسلامية، انشغل بالتدخل في خلافات مع الملك عبدالعزيز مع أسرتي آل عائض والأدارسة الحاكمتين في عسير، واللتان كانتا ترتبطان باتفاقات مع الدولة السعودية من قديم تجعلهما تحت حمايتها ونفوذها، ثم ما كان من دخوله في حرب مع الأدارسة وضعته على حافة مواجهة عسكرية مباشرة غير محسوبة العواقب مع الملك عبدالعزيز. وليس من شك أن هدفنا هنا ليس استعراض الأحداث التاريخية التي شهدتها العلاقات السعودية اليمنية منذ مراحلها الأولى، فهذا معروف في كتب التاريخ، بل هدفنا هنا استخلاص العبر وتتبع محاولات استكمال (الشراكة الاستراتيجية) بين الجارين الكبيرين في الجزيرة العربية بما يخدم مرحلة الازدهار التي تعيشها هذه العلاقة بين الوطنين الشقيقين، وتؤكد أن فكرة (الشراكة الاستراتيجية) بينهما ليست هدفاً جديداً يطرح لأول مرة بل كان هدفاً استراتيجياً، والهدف الاستراتيجي يبقى نابضاً بالحياة يتجاوز المحن والأزمات ويرتفع فوقها حتى يتحقق.
|
|
|
| |
|