Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/10/2006G Issue 12425مقـالاتالخميس 13 رمضان 1427 هـ  05 أكتوبر2006 م   العدد  12425
رأي الجزيرة
الصفحة الرئيسية

الأولى

محليــات

الاقتصادية

الريـاضيـة

مقـالات

فـن

استراحة

دراسات

دوليات

متابعة

منوعـات

نادى السيارات

نوافذ تسويقية

الرأي

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

سماء النجوم

تحقيقات

مدارات شعبية

زمان الجزيرة

الأخيــرة

أمي في الشهر الفضيل 2-2
د. فوزية عبد الله أبو خالد

مستفتح تذكيري
استهللت موضوعي للأسبوع الماضي باستفتاح تحليلي من وجهة نظر التحليل المعرفي الاجتماعي عن تدخّل شهر رمضان بمعناه الروحي والحياتي في صياغة المخيال العام لذاكرة الوجدان الجمعي للمجتمع، ومما قلتُ في ذلك: إنني في طرح الموضوع أقوم بمحاولة استقرائية في الكتابة عن رمضان كرمز حضاري، وليس دينياً وحسب، من خلال إدخال ذاكرتي الشخصية كطرف في محاولة استعادة بعض المكونات الذاتية في تشكيل وجدان الذاكرة الجمعية تجاه الشهر الفضيل بما لا يخلو من التجريب بمعناه الإبداعي والعلمي. ولعل هذه العملية تكون بمثابة نوع من الحفريات أو العينة الاثنوجرافية باستعارة لغة مناهج البحوث لدراسات علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وذلك لاختبار العلاقة بين البعد الخاص والعام في تكويننا المعنوي والمعاشي من خلال شخص مؤثر وفعال كشخصية الأم في مواقفها وسلوكها اليومي في مناسبة رمزية عزيزة كشهر الصوم.
وهنا أستكمل ما كنتُ طرحته الأسبوع الماضي من بعض اللمحات بعناوين فرعية: أمي وماء زمزم، أمي وشهر الفرقان، فيما تمثله اللقطات التالية:
أمي وصلاة التراويح
كانت رحلة التراويح بصحبة أمي وجاراتها أو بعض من خالاتي إذا كنا بمكة المكرمة والطائف أو بعض من عماتي إذا كنا بالرياض أول اكتشافاتي لطوى وأول خطواتي على ترابه الطاهر وربما على رمل تلك الرحلة الليلية من بيتنا إلى المسجد. كتبت أول أسئلتي في محاولة فك خط ذلك السر السافر الغامق الذي يجمع بين النساء وبين الرجال في دور العبادة وتفرّق بينهم السبل على طرقات مشتركة في علاقة كأن عليها أن تبقى على مسافة خطين متوازيين لا يلتقيان.
وهناك كان النساء ينحين النعل المنزلية الخشنة أو الكعوب العالية الأنيقة أو قباقيب الخشب القاسية أو أزواج الخف الخفيفة المنسوجة من الستان أو الكتان جانباً عند أعتاب مصلى النساء. وعلى عكس كانتزاكي كما قرأته فيما بعد الذي كان يلبس أحذية ضيقة بمسامير ناتئة وهو يطأ صحراء سينا وتراب القدس لتتضاعف آلام الرحلة، وليستزيد بضيق الحذاء وبتجرّح الأقدام من لذائذ وعذابات الارتحال، وليستعين بالأشواق على المشاق، علّه يبطئ على دروبها ما أمكنه الإبطاء ليواصل السير بغير بوصلة فلا يصل في الرحلة إلى راحة النهاية. كان يبدو وكأن النساء يحررن أرجلهن أو خطاهن من قيود لا يحسها سواهن وهن يدخلن بيوت الله. وبما أن الدخول إلى المسجد على حفي مثل الدخول على وضوء كان مشتركهن أيضاً مع الرجال؛ فقد كان ذلك بالنسبة لي مدعاة للتأمل لاحقاً في فروق المنطلقات. إلا أن مما كان يخلب مخيلتي الطفلة وقتها وفي تلك التجربة المبكرة لتفتّح حواسي على مناخ رمضان الخاص هو مخمل أقدام النساء المنقوشة بالحناء أو بالسمرة الربانية أو بالبياض وهي تنسكب على أرض المصلى بعد أن يتركن خلفهن حديد أو حرير الحدوات فتختفي أصوات طقطقات حركة السيقان ولا يسمع إلا حفيف خطوات تشبه رفيف الأجنحة، حتى يخيل لي أن أمي لا تمشي إلى مكانها لتصطف بين النساء بل تطير بأطراف من زهرة القطن أو ريش النعام.
في بداية تدريباتي على الذهاب إلى صلاة التراويح مع أمي كان مدخل المصلى يصير مهرجاناً لي ولسواي من الأطفال، فنلبس مواطئ أرجل الأمهات ونصنع من دق الكعوب إيقاعاً لا نشعر أنه يزعج المصليات إن كن يشعرن بنا وهن في ذروة الانخلاع من حالة الطين والأمومة والزواج والأدوار الاجتماعية الواسعة أو الخانقة إلى حالة الحور بين يدي بديع السماوات والأرض. وفي مرحلة لاحقة بدأت أندغم في تيار المصليات الجماعي وأصير ب(بخنقي الأسود المزرى بالقصب) أو بقامة طفلة الست - السبع سنوات وهي مزهوة بشرشف الصلاة كجزء من نمنمات مشهد النساء الشامخ الخاشع في رحاب التراويح. إلا أن المشهد إلى اليوم لم يفقد تجدّد دهشته وخشوعه كلما سلمت عن يميني وعن يساري بعد كل ركعتين من صلاة التراويح واغترفت من ابتسامة أمي وتبتّلها إن صادف أن كنا في المصلى معاً أو إن كانت تصلي بجانبي أحد أطيافها بعد أن صارت تعيش في جدة وأعيش بالرياض. كانت ولا تزال تفتنني زينة النساء في صلاة التراويح بمساجد الأحياء كل رمضان وقد خلعن كل زينة وأتين متكحلات متعطرات متوردات بجمال الإيمان وبزعفران الدعاء.
كانت أمي أول من لفت انتباهي بغير ترجيح معياري أو تفضيل قيمي إلى الاختلاف والتعدد في قراءات الأئمة، وخصوصاً بين طريقة التنبير في نجد والترخيم في الحجاز، وبهذا فقد ربّت جوارحي على الاستمتاع والتقدير لنعمة ذلك التنوع الشجي في قراءة القرآن وفي دعاء صلاة التراويح، فيما كلها بمختلف اللهجات واللغات والأصوات والنبرات والعبرات تتوجه للواحد الأحد.
أمي والنفاس في رمضان
لم يكن على زهوي الأنثوي أن ينتظر لريثما يمر جسدي أنا نفسي بتجربة الحمل والولادة لأتعلم من كل لحظة من لحظات الحمل المبرحة ومن كل شهقة من شهقات الولادة الفلاقة ما ميز به الله النساء من رباطة الجأش وجمال الصبر وزينة العقل ومن شجاعة الجوارح ومن بطولات البدن لمواجهة ذلك التحدي اليومي البسيط الشرس الذي يتوقف عليه استمرار تدفق النوع البشري في عملية الحمل والولادة.
وإن كان لهذه التجربة الخلاقة عنفوانها الخاص الذي يعمّقه تحوّل التجربة من تجربة بالمشاهدة والمشاركة إلى تجربة بالمعايشة الشخصية المباشرة؛ فقد كان لمرور مراهقتي بهذه التجربة عبر جسد أمي مذاق لاذع ومستفز لا زلتُ أخشى أن يجرح صيامي في كل يوم من أيام رمضان.
ومع أن أمي لم تلد أياً من بطونها الثلاثة عشرة - ما شاء الله - في شهر رمضان إلا أختي حسناء؛ فقد كانت تلك التجربة الوحيدة لولادة أمي في شهر رمضان كافيةً لتهتك أمام عيوني خرافة ضعف أو نقص النساء. ليس من شك عندي الآن أن أمي كانت تتكبر على آلامها وعلى تلك التقلبات المزاجية وموجات الحزن العاتية التي تصيب النساء في فترة النفاس وهي تصبّ لنا ولأبي رحيق صبرها في صحون الألماسية والططلي وتحلي تمر الحنيني والقشيد بدبسه الفوار. لم تكن تشتكي وهي تصحو من نومها المتقطع وسهرها المتواصل على بكاء الرضيعة طوال الليل لتصحينا قبل الفجر بقليل لنجتمع على لقمة السحور. ولم تكن تتأوه وهي تربط ظهرها لتعجن السمبوسك البيتي، فيما تسند الرضيعة على صدرها بيد وباليد الأخرى تحرك شوربة الحب المبهرة بالهيل والكزبرة المجففة وجوزة الطيب وخلطات سرية أخرى من الأبازير/ التوابل التي تحملها معها كتذكارات عزيزة من الساحل الغربي لتبذرها في تربة اليمامة، بينما بيدها الثالثة والسابعة والحادية عشرة تغسل وتكوي وتخيط وتدرس وتنقع أثواب قمر الدين وشراب التوت وتدرب الأطفال منا على حلاوة الصيام. فلا تأكل أمامنا دون أن تخفي عنا ما يبيحه النفاس لها من الفطر في شهر رمضان احتراماً لمشاعرنا ربما أو ربما لأنها لا تشتهي ما تبقّى من أفواه الصغار أو ربما لو سألتها لكان لأنه لا يهنأ لها أن تأكل ما لم (تخامسها) أيدي الأسرة والضيوف. ومع أن للنفاس عموماً في ذاكرة جيلي الأسرية رائحة الحلبة والمرة والزنجبيل والعصيدة ومسلوقة الدجاج من قوت الأربعين يوماً المعتاد في أيام النفاس فإن رائحة روح الموز وماء الكادي وحدها تفوح من ثوب أمي الديباج المشمشي ومن قماش أقماط حسناء كلما هبّ هواء مغارب رمضان لتكسر قارورة الوقت في حنايا روحي وتستعيد لي عبير كفاح أمي بعطره النفاذ.
أمي ودعاء ختمة القرآن
كانت نور تتنافس مع نور ونور ونور وعدد آخر لا يعدّ من أمي على ختم القرآن عدة مرات في شهر رمضان، وغالباً ما كانت ختمتها لكتاب الله في الشهر الفضيل تتجاوز الثلاث ختمات.
كانت في ختمة القرآن ضنينة بوقتها أنانية في منافستها بينها وبين نفسها، فكانت لا تبدّد وقتها لتأمر أياً منا بذلك؛ لأنها على ما يبدو كانت تؤمن بالتعليم بالممارسة أو بالمشاركة أو بالعدوى، وربما تعلم بسليقة نقية الرمز الذي تمثله أفعال الأم وليس فقط نصائحها أو مواعظها؛ فهي بطبعها لا تميل للوعظ. وبقدر ما عرفت أمي قديرة مفحمة في الإقناع بقدر ما عرفتها ضعيفة في الوعظ. وفي المناسبات القليلة التي سمعتها تتحدث عن أمومتها كانت تصرّ على تأكيد المعنى أن {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى}؛ فهي تمسك بقوة بذلك المعنى الموضوعي ب{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}، وترى أن عليها أن تقنع وتعين ليس إلاَّ، فهي لم تعتقد قط أو على الأقل لم تمارس علينا أو معنا أسلوب ذلك المعنى الذي يرى أن ما لم يدرك بالترغيب يدرك بالترهيب.
أما ما لم تفرط فيه أمي قط خلال جميع ختماتها للقرآن الكريم في رمضان فهو أن تجمع من صغير البيت إلى كبيره لدعاء الختمة، وكأن أمومتها الجارفة لا تسمح لها بأن تستأثر بثمرة قراءتها للقرآن وحدها، فتدعونا جميعاً لدعاء الختمة وتدعو لنا وتختم دعاءها بما يعبّر عن تلك الطاقة الخلاقة من الحرية التي تضمها أنسجة رئتها وهي تبتهل إلى الله بعيون تلتمع بمطر الدمع وأكف تضرع في الشروق والظلام: (اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه) (اللهم لا تحرمنا حلاوة تلاوة وتعقّل القرآن الكريم في رمضان وبعد رمضان)، تضم الكتاب المبين إلى صدرها وتنفث هواء طلقاً في أرجاء البيت وفي أرجاء حي الشرفية سابقاً وحي أبحر - البساتين الآن، وكأن رمضان كما ترى وبلغتها الشعرية المشتقة من جهازها التنفسي وأجنحة روحها نهر لتغتسل فيه البلاد والعباد من درن أخطاء وانكسارات العام.
وهذه ليست إلا لمحة واحدة من صورة أمي في شهر رمضان التي أشهد الله أنه لم يخالط كلمة واحدة منها مبالغة أو خيال. أمد الله في عمرها، وألبسها حرير الصحة، وأدام عليها نعمة البصيرة والإلهام هي وجميع الأمهات.فويح حبري إذا لم أضِئْ حلكته ببريق لمحة من وجه تلك السيدة الباسقة التي عبثاً تحاول الشمس أن تتشبه بسرمد إطلالتها في سواد الليل وفي بياض النهار.
وويح مفاتيح لوح كمبيوتري التي بقيت دون أن تعقل شعراً أو نثراً على مدى مراحل عمري وشراسة محاولاتي حرفاً واحداً من جبروت جمالها وطيشه المختال. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

Fowziyah@maktoob.com



نادي السيارات

موقع الرياضية

موقع الأقتصادية

كتاب و أقلام

كاريكاتير

مركز النتائج

المعقب الإلكتروني

| الصفحة الرئيسية|| رجوع||||حفظ|| طباعة|

توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية إلىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية إلى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved