إهداء من الكاتب إلى: عمي العزيز معالي الشيخ محمد الحمد العيسى عميد وحكيم عائلة (آل عيسى) من بني زيد من شقراء حفظه الله.
نواصل سرد بقية العوامل السياسية (الداخلية) ثم نسرد العوامل السياسية (الخارجية) التي أجبرت الخميني على إصدار الفتوى الشهيرة ضد رواية (آيات شيطانية) الملعونة .
وكما ذكرنا سلفا، العوامل أو الضغوط الداخلية تكتلت بصورة تراكمية عنيفة بحيث أدت في النهاية لتهئية البيئة المناسبة في نفسية وفكر الإمام آية الله الخميني رحمه الله لصدور الفتوى ولكن الضغوط الخارجية حددت بل حسمت تاريخ صدور الفتوى بالضبط (باليوم تقريبا) كما سيرد بالتفصيل.
تقرير صحفي محرج للخميني من (صنداي تايمز)
ويشير موستين (صفحة 52): ثم تزايدت الضغوط النفسية على الخميني، وبدأت الثورة بالفعل تأكل أبناءها كما يقال حين نشرت جريدة (صنداي تايمز) البريطانية المرموقة والموثوقة وذات المصداقية العالمية العالية تقريرا خطيرا من داخل إيران جاء فيه أن هناك على الأقل 1.700 مواطن (إيراني) قطعت أيديهم خلال سنة واحدة كما تم إعدام 2000 مواطن (إيراني) تقريبا خلال سنة أيضا لأسباب سياسية كيدية منهم 48 مثقفا بدون محاكمات قانونية مطلقا وبتهمة واحدة تقريبا هي: (معاداة الثورة)!!
وجاء في تقرير صنداي تايمز فقرة ساخرة قاتلة وهي أن القانون الإيراني هو القانون الوحيد في العالم الذي يعاقب على ممارسة أفعال ثقافية مثل (التفكير) و(القراءة) واستشهدت الجريدة ببنود محرجة للخميني من القانون الإيراني تجرم بالفعل ممارسات ثقافية بصورة مبهمة مثل: (قراءة كتب هرطقة) و(التفكير بأفكار شريرة) بدون مذكرات تفسيرية لتلك البنود المرعبة. أي باختصار، ممارسة القراءة والتفكير بخلاف ما يراه رجال الدين مناسبا.
ونسبت الجريدة للخميني سخريته من فكرة حقوق الإنسان حيث كان يتهكم على مسمى (منظمة العفو الدولية) Amnesty International قائلا إنها (منظمة السخافة الدولية) Travesty International، كذلك سخريته من فكرة القانون قائلا: (المجرمون لا تجب محاكمتهم مطلقا بل يقتلون فور القبض عليهم وبدون محاكمة) (معين، صفحة 280).
ثم يتهكم موستين بحق (صفحة 24): (هذا هو الرجل الذي وصفه كاتب سيرته الذاتية الإيراني باقر معين (خميني: حياة آية الله)، صفحة 272) بأنه إنسان (رحيم) لدرجة أنه يتفادى قتل (الذباب) الذي يضايقه، بحيث يقوم (الخميني) بهش وطرد الذباب بطرف عبائته ب (رقة) و(لطف) لإقناع الذباب بالبعد عنه)!!!
تمرد آية الله منتظري رحمه الله
ثم يؤكد موستين (صفحة 133): ثم برز الناقد الأهم والضحية الكبرى للخميني وهو آية الله حسين منتظري رحمه الله (1922-2009) تلميذه وصديقه وخليفته الذي كان الخميني يحبه ويعامله كابنه والذي أهانه الخميني وحكم عليه بالإقامة الإجبارية عندما تجرأ على نقد تدهور وضع حقوق الإنسان الذي وصل إلى الحضيض بعد قتل واغتيال بعض المثقفين في إيران بصورة غامضة على يد بعض المتزمتين دينيا، مما نتج عنه ظاهرة هجرة جيل كامل من المثقفين إلى الغرب يقدرون بالآلاف (كتاب وفنانين وأساتذة الجامعات) كما أسلفنا، واستغلال الصحافة العالمية تلك الهجرة للطعن في الإسلام وليس إيران.
وكانت القشة التي قصمت ظهر منتظري وقضت على مستقبله السياسي نهائيا هي تلك الرسالة الشخصية الجريئة والصريحة والشجاعة التي وجهها إلى أستاذه الخميني والتي جاء فيها حرفيا: (سجون الثورة أسوء من سجون الشاه والسافاك) (السافاك: جهاز مباحث الشاه). وذلك بسبب انتشار أخبار مؤكدة عن انتهاكات رهيبة لحقوق الإنسان في سجون الثورة وصلت لدرجة متوحشة مثل الاغتصاب والتعذيب والقتل للمعارضين لنظام خميني. وهي الرسالة التي تم تسريبها عمدا (بحسب موستين) للصحافة العالمية وسببت حرجا عالميا عظيما للخميني مما جعل الخميني يغدر بتلميذه وصديقه بل وخليفته الذي اختاره بنفسه ليكون مرشدا للثورة بعد وفاته حيث أهانه وشتمه علنا، ولم يناقش معه مطلقا محتويات رسالته الناصحة له، وحكم عليه بالإقامة الجبرية في منزله وعزله من جميع مناصبه باستثناء التدريس لأنه لا يملك منعه من ذلك بحسب التقليد الشيعي (موستين، صفحة: 24، 133).
ويشير موستين (ص 24) نقلا عن معين (ص 299): (بينما كان منتظري يجادل دفاعا عن آرائه بوجوب احترام (حقوق الإنسان) مستشهدا بأمثله عن رحمة وعفو الرسول صلى الله عليه وسلم عن أعدائه، كان الخميني يرد على منتظري في خطبه مستشهدا بحوادث عنيفة من السيرة النبوية كان يستعملها خارج سياقها لتبرير العنف مع مخالفيه).
نكتفي بهذا السرد السريع لبعض العوامل والحوادث التي شكلت الضغوط الداخلية لصدور الفتوى والآن ننتقل إلى الضغوط الخارجية:
الضغوط الخارجية: لقب (خادم الحرمين)
في عام 1986، أعلن عاهل السعودية الملك فهد (رحمه الله) من المدينة المنورة عن تغيير لقبه من (ملك) و(صاحب الجلالة) إلى (خادم الحرمين الشريفين) وشعر الإمام آية الله الخميني رحمه الله بالصدمة والأسى لأنه كان يتمنى مثل هذا اللقب العظيم ليتوج نفسه (زعيما للعالم الإسلامي) لأنه كان (يتوهم) أن نجاح ثورته ضد الشاه تؤهله لذلك الشرف الرفيع وتسبب الإعلان عن ذلك اللقب في صدمة نفسية عميقة للخميني.
فشل الحرب العبثية مع العراق
ويضيف موستين: ثم كان استمرار الحرب مع العراق بدون حسم لصالح إيران يشكل ضغطا مدمرا وكارثيا لشعبية الخميني. حيث استمرت الحرب سجالاً بين البلدين إلى أن وافق الخميني مضطرا لقبول وقف إطلاق النار في 8 أغسطس 1988 بعدما حققت القوات العراقية تفوقا ونصرا عسكريا هاما وملحوظاً على إيران بعد تلقيها دعماً لوجستياً (غربياً) قويا بما في ذلك خرائط بالأقمار الصناعية عن مواقع وتحرك القوات الإيرانية.
ووصف الخميني قبوله بوقف إطلاق النار بأنه مثل (تجرع كأس السم)، ولم يكن يبالغ في ذلك الوصف بل يعكس حقيقة حالته العصبية والنفسية المتأزمة لكثرة النقد الداخلي من أقرب المقربين، ولكونه كان قد تعهد مرارا (علانية) بهزيمة الرئيس صدام حسين رحمه الله، ثم فشل في تحقيق وعده!! أما نتيجة الحرب فكانت تدمير اقتصاد البلدين وعودتهما إلى الوراء عشرات السنين كما هو معروف. وأخيرا انتهت تلك الحرب العبثية بهدنة كانت عبارة عن تسوية لحفظ ماء الوجه للطرفين بعد دمار وخسائر بشرية ضخمة للبلدين وفشل الخميني الذريع في تحقيق وعوده بهزيمة صدام حسين وتحرير شيعة العراق.
سبب الفتوى المباشر انسحاب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان
ويؤكد موستين: وبعد فشل الحرب مع العراق وقبول الخميني بوقف إطلاق النار عبر هدنة، تدهورت شعبية الخميني داخل إيران إلى الحضيض بسبب وجود بيئة مهيئة لذلك تمثلت في وجود انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان وهجرة المثقفين وتمرد بعض كبار رجالات الثورة كما أسلفنا.
وهكذا تواصل الضغط النفسي الهائل على الخميني ولكن أضيف إليه هذه المرة ضغط سياسي عنيف من خارج إيران عندما اقترب موعد انسحاب آخر جندي سوفيتي من أفغانستان وهو التاريخ المحدد سلفا تماما وبالضبط في 15 فبراير 1989 بحسب اتفاقية ومعاهدة دولية (غير رسمية) ولكنها معلنة تمت في جنيف بين أطراف النزاع الرئيسة في 1988 والتي عقدت قبل عشرة شهور تقريبا من صدور فتوى الخميني وتم فيها إعلان موعد معين ومتفق عليه لانسحاب آخر جندي سوفيتي رسميا من أفغانستان وهو تاريخ 15 فبراير 1989.
وكان اقتراب هذا التاريخ يعني تحقق وثبوت هزيمة الاتحاد السوفيتي الملحد وبالتالي حدوث كابوس مزعج للإمام آية الله الخميني رحمه الله يتمثل في حصول خادم الحرمين فهد بن عبد العزيز رحمه الله والمملكة العربية السعودية التي دعمت بقوة المجاهدين الأفغان على سمعة حسنة وشعبية ضخمة في العالم الإسلامي كحامية للإسلام ومدافعة عن المسلمين نظرا لنجاحها في صد عدوان الملاحدة السوفيت عن أفغانستان، وكان هذا النجاح السعودي يمثل (كابوسا) غير مقبول مطلقا عند الخميني لا سيما وأنه كان يتوق ويتوهم بأنه يقود (الشعوب الإسلامية) بسبب نجاح ثورته الكبيرة ضد الشاه كما أسلفنا وهي بالفعل ثورة غير مسبوقة تاريخيا أكسبته الكثير من المعجبين، وجعلته يتوهم أنه يقود الشارع الإسلامي، ولكنها أخفقت داخليا كثيرا وأصابها العطب بعد تمرد أبنائها عليها كما سلف.
وهكذا، كان لاقتراب الموعد الرسمي المحدد سلفا لانسحاب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان بالضبط في 15 فبراير 1989 ضغط نفسي هائل على الإمام آية الله الخميني رحمه الله.
مظاهرة ضخمة في باكستان
ضد رواية (آيات شيطانية)
وفجأة حدثت في 12 فبراير 1989 مظاهرة سياسية ضخمة في مدينة إسلام آباد في باكستان حيث تظاهر عشرة آلاف باكستاني تقريبا معظمهم من السنة وحاصروا (المركز الثقافي الأمريكي) محتجين على صدور رواية (آيات شيطانية) الملعونة، ونتج عن ذلك مقتل العشرات من الباكستانيين الأبرياء بسبب التدافع والفوضى. وكان الخميني يحلم ويأمل دائما في كسب ود وتعاطف الشارع الباكستاني (السني) المشهور بالغوغائية لوجود حزب إسلامي قوي ومشاغب في المعارضة وأيضا بسبب الحماس/الالتزام الديني الكبير للشعب الباكستاني وكذلك بسبب القرب والتجاور الجغرافي بين البلدين.
الخميني يبلع كلامه ويصدر الفتوى
وهكذا وبصورة مفاجأة تماما للمراقبين، أصدر الخميني في 14 فبراير 1989 بعد (يومين فقط من مظاهرة باكستان) و(قبل يوم واحد فقط) من انسحاب السوفيت رسميا من أفغانستان الفتوى الشهيرة التي جاء فيها: (أدعو جميع المسلمين الغيورين على الإسلام لقتل مؤلف وناشر هذه الرواية). وذلك تماما بعكس تصريحه الأول في أوائل فيراير 1989 الذي قال فيه كما أسلفنا بعدما قرأ ملخص الرواية بالفارسية (العالم كان دائما مليئا بالمجانين الذين يقولون مثل هذا الهراء، هذه الرواية لا تستحق حتى مجرد الرد عليها)!!!
نجاح ساحق للفتوى
وهكذا نجحت الفتوى نجاحا ساحقا في تحقيق هدفها ولفت الأنظار إلى الخميني وزيادة شعبيته المتدهورة داخليا وخارجيا والتغطية جزئيا وشغل الإيرانيين عن مناقشة مشاكله الداخلية الصعبة وساهمت في حصوله على سمعة خارجية كبيرة في الشارع الإسلامي لأنها دغدغدت مشاعر المسلمين سنة وشيعة نظرا لكون تلك الرواية الحقيرة كانت قد سببت بالفعل صدمة نفسية وإهانة ضخمة للمسلمين في كل مكان. بل ونجحت الفتوى في التغطية والتفوق تماما إخباريا على انسحاب السوفيت من أفغانستان، وحرمت السعودية إعلاميا (مؤقتا) من الحصول على فضل صد عدوان ودحر السوفيت. وأكبر دليل على هذا النجاح هو أننا اضطررنا إلى كتابة هذه الدراسة السريعة لتوضيح أمر واضح لكل من عاش تلك الفترة حيث يقول الفلاسفة (من المعضلات، توضيح الواضحات)!! ومن أدلة نجاح تلك الفتوى الساحق كذلك: عدم تذكر الناس خبر انسحاب السوفيت بينما يعرف الجميع حتى الأميين خبر صدور تلك الفتوى الشهيرة!! فيا للعجب!!!
ورغم كل ما سقنا من شواهد وأدلة مقنعة، فنحن لا نجزم بصحة هذا التحليل 100% لأن الله سبحانه وتعالى وحده هو العالم بما في النفوس ولا يسعنا سوى القول رحم الله الإمام آية الله الخميني وجازاه على نيته بخصوص هذه الفتوى التي لفتت الانتباه لتلك الرواية الحقيرة، ولولا فتوى الخميني، لما عرف العالم عن شخص منحط اسمه سلمان رشدي ولا روايته الملعونة (آيات شيطانية) مطلقا ولبقي رشدي كاتبا مغمورا من الدرجة العاشرة على أفضل تقدير ولم ينل أي تكريم عالمي خاصة لقب (فارس) الرفيع من ملكة بريطانيا في عام 2007!!
hamad.alissa@gmail.com
المغرب