بعد استجداء طويل لسلطان النوم منحها غفوة لبضع دقائق لتستيقظ بعدها على صوت صرير فتح باب الغرفة. من تحت غطائها لمحت بطرف عينها الساعة المعلقة على الحائط فإذ بها قد تجاوزت الثالثة فجراً ببضع دقائق، رمى بثوبه على أطراف الشماعة ثم رمى بجسده على الجزء المخصص له من سرير النوم، حاولت بتغيير وضع نومها، لفت انتباهه بأن هناك من يشاركه احتلال هذا السرير الممتلئ بجثث العاطفة كانت محاولة منها فاشلة أعادت المحاولة بزحفها إليه قليلاً متخذة من رائحة عطر تلك القارورة التي سكبتها حتى آخر قطرة على جسدها ولطخت عنقها وخديها بما بقي في يدها السلاح الذي سيجعله يلوي عنقه إليها، تفوح رائحة السيجارة التي يبدو أنه أطفأها على أعتاب الباب لتصطدم في الفضاء الضيق الفاصل بينهما برائحة عطرها استغل انشغالها بالصراع بين الرائحتين ليعلن لها هزيمتها بصوت شخيره وبنائه بمنكبيه سدا بينهما!!
الساعة الثامنة صباحاً يقطع صمت الغرفة صوت المنبه ألجمه بصفعة من أطراف أصابعه أعاد المنبه تمرده بإخراج الصوت مرة أخرى نهض بتثاقل استغلت بقاءه كعادته طويلاً في دورة المياه في إعداد كوبٍ من الحليب وبعض فطائر الجبن التي يحبها. في وسط الصالة مدت له ما بيدها مغلفة بابتسامة صباحية تجاهل تلك الابتسامة وهو يغلق ما تبقى من أزرار ثوبه قائلاً: سأتناول الإفطار مع الزملاء في العمل!! أحست بأن أنفاسها تغرق في بحيرة من الدهشة بعد أن كسر مجاديف كبريائه، يقف قبل أن تفصله خطوتان عن باب الشقة، ارتعش جسدها فرحاً لوقوفه هيئ لها أنه استدرك بأن يعود ليجبر بخاطرها ويلملم شظايا انكسارها برشفة هاربة من كوب الحليب أو قضمة مسروقة من الفطيرة لكنه لم يمنحها الاستمتاع بتلك الفرحة طويلاً حينما قال: (قد أتأخر عن موعد الغداء) وخرج مغلقاً الباب خلفه!!
سحبت خطواتها المقيدة بالإهانة ارتمت بين أحضان الكنبة لتمنحها خلوة بجسدها وما تبقى من رائحة عطر البارحة. عالم مليء بالمتضادات يخيم عليها أسئلة صاخبة تعبث بتفكيرها، أمسكت بمعصم الثمانية الأشهر الماضية من عمر زواجهما وأخذت تسأل تلك القبلات التي كان يمطر بها خديها وشفتيها قبل ذهابه للعمل أين اختفت؟ وتلك الضمة التي ترتعد لها كل مكامن أنوثتها عند رجوعه لماذا تلاشت؟؟ وتلك المفاجآت التي يضعها يومياً في مزهرية حياتهما بأسلوبه الفكاهي المفاجئ بيد من ذبلت؟ يقطع طريق رحلة ذاكرتها في ذلك العالم الوردي صوت المؤذن اتجهت للمطبخ تفننت في إعداد كل ما يحبه وأتقنت تنوع الأطباق.الساعة الثالثة عصراً عاد يحمل بين يده جريدة أخذ يقلب صفحاتها أحست بالغيرة تقتات من كبد أنوثتها تمنت أن يمنحها شيئاً من وقته ليطوي صفحات عذابها أو يقرأ شيئاً من أبجديات مشاعرها ليطفئ النار التي أشعلها بصمته.
التف حول سفرة الطعام حاولت أن يحدث تصادم بين عينيهما لكن عينيه كانتا مشغولتين بالتجول بين الأطباق لاحظت تركيزه على طبق معين غرست الملعقة بأحشائه ومدت بها إلى فمه قطع طريق رغبتها بغرسه يده في الطبق المجاور والتهم ما به ليثبت لها بأنه مازال يستطيع استخدام يده ثم نهض وسط ذهولها واضعاً الشماغ على كتفه وخرج ليلحق بأصدقائه الذين اقتبسهم مؤخراً للهروب بصمته من المنزل.
عاودت الأسئلة ثورانها كبراكين بحرية لا يحس بها سواها حاولت السيطرة على هيجانها بتتبع أثر خطوات تلك الأيام القاحلة عاطفياً بدأت السماء تصفو والغيمة تنجلي بتذكر زيارة أمه لهما مطلع الأسبوع الماضي حينما بدأت بتحرك المياه الراكدة بقذفها سهام كلماتها لتصيب مقتل سعادتهما وهما يتقبلان تلك السهام بابتسامة مضيفة في وجوه ركاب الدرجة الأولى،، فتارة تبدي رغبتها في رؤية أحفادها قبل الممات، وتارة أخرى تصف البيت الذي ليس به أبناء بصحراء قاحلة.
استغلت غيابه المتعمد واتجهت بخطوات تملؤها الرغبة والرهبة للمستشفى المجاور أخضعت نفسها للتحاليل المخبريه، ابتسامة الطبيبة وهي تحمل ورقة النتيجة تصهر تلك الحمم التي أثقلت كاهلها، إحساس بمخاض الأمومة يختلج في رحمها أطالت النظر ملياً في النتيجة ثم قبضت عليها بكلتا يديها وكأنها تكسر تلك الأغلال التي تقيد مسيرة حياتها
عند المساء في غرفة نومهما البائسة وضعت ورقة وردية بجوارها وردة جورية على وسادته بعد أن كتبت بها (زوجي الغالي وقدري الطاغي أتمنى أن تتدبر قول الله تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) قبل أن تضيف إلى أمك ذنب امرأة أخرى.. ونامت ليلتها راضية مطمئنة.
mhrg11@gmail.com