هذه العبارة الشهيرة, التي يعرفها كل من له علاقة بالقراءة الحرّة اللا مدرسية, تجاوزت معناها المباشر إلى معانٍ ذات دلالات, اجتماعية - سياسية وأخلاقية, على كل حُكمِ قيمة يُطلق عن جهل, أوعن تعمّد إيقاع الأذى أو إغماض العين عن الأذية, وعن عدم الشعور بالخجل أو بالمسؤولية الأخلاقية من الانضمام إلى جوقات إعدام الكتب وتخوين الكتّاب, وتجريمهم على (لعبطتهم). فنحن الكتّاب (نلعبط) كأسماك مُنع الماء عنها, وننده (وا أوكسيجيناه!), ونصرخ! فمع الصراخ يخف الألم.
كانت عبارة (لم أقرأ..), قد نشأت مع حملة (تسميم) الشاعر والروائي الروسي الشهير بوريس بَسترناك في وسائل الإعلام (الوطنية). والتسميم كلمة يستخدمها الروس للتعبير عن حملات السلطة على الكتّاب المعارضين. فمع نشر روايته (الدكتور جيفاكو) خارج الاتحاد السوفياتي, فُصِلَ باسترناك من اتحاد الكتّاب, وعقدت مؤتمرات وأقيمت ندوات للتشهير به وتسفيه روايته. وكانت كلمات المشاركين فيها, كما مقالات النقّاد والكتّاب الصحفيين وشهادات العمال والكادحين, الذين قيل لهم, أو أوحي لهم بأن قولوا فقالوا, كانت تبدأ بعبارة ( لم أقرأ بَسترناك, ولكنني سأقول, أو أريد أن أقول أو أستطيع أن أقول...), وبعدها تأتي عبارات مثل خائن لشعبه, ومتنكر لقيم هذا الشعب, وكتابه حاقد ومغرض ويستهدف الروح الثورية واللحمة الوطنية, وتافه فنّيا ولا قيمة أدبية له..وكانت النتيجة أن وجد بَسترناك نفسه مضطراً إلى الاعتذار عن قبول جائزة نوبل للآداب التي خُصَّ بها عام 1958,(تحت ضغط الشعب كما جاء في رسالته!).
الناطقون بالأحكام القاتلة المصنّعة في دوائر خاصّة, يخشون, حتى حين يأتي قولهم استجابة لإرادة هذه الدوائر, أن يعلنوا عن قراءتهم للكتب الملعونة, فلا يعرفون كيف يتبرؤون من تهمة قراءتها, وهم في الآن نفسه يخشون الصمت. فحيث القولُ يحدّدُ انتماءَ صاحبه, يكون الصمت مريبا! فكيف إذا كان الشخص من الساعين إلى موقع شخصي ومصلحة خاصّة في منظومات الإلغاء!؟
(لم أقرأ زيدا أو عمرا, ولكنني أريد أن أقول...), ويفتح الكَتَبةُ والقوّالةُ المُكتَرون والمتطوّعون حاويات القمامة العربية للكتابات التي في إدانتها براءة ذمة أو شهادة انتماء أو ورقة لاعتلاء الكراسي أو الاستقرار عليها, وليس مهمّاً كيف تكون هذه الكراسي وما الروائح التي تفوح منها أو من حولها. تفتح حاويات القمامة في مقاهي الثقافة العربية, عند صدور كتاب لا يرضي الكبار, وتجلس حولها جوقات الإعدام, ويبدؤون: لم أقرأ الكتاب, لكنّني أعرف أنّ صاحبه حاقد وثأري وغير موضوعي؛ وأنا أيضا لم أقرأ الكتاب, ولكنني لا أنتظر من كاتبه أن يكتب شيئا مهمّا؛ وأنا مثلكم لم أقرأ الكتاب, ولكنه كتاب لا يستحق إضاعة الوقت؛ وأنا, يا جماعة, لم أقرأ الكتاب ولكنّه أتفه من أن نضيع وقتنا في الحديث عنه, فهيّا بنا نلعب الورق؛ وأنا.....ويخرجون من المقاهي والمطاعم والبيوت واتحادات الكتّاب ونوادي لاعبي الورق ومصّاصي المتة وراضعي النرجيلة, فرحين لحسن أدائهم. ويقولون ويكتبون ما يرضي صائدي الأكسيجين!
دمشق