محمد علي شمس الدين شاعر لبنانيّ كبير على المستوى العربي، بمختلف قضاياه الثقافية، وصديقٌ عزيز على مستوى الأدب والذات.. تجمعني به لقاءات منفردة في غالبيتها، ومجتمعة مع صحبة من المبدعين أحياناً.. ودائماً يأخذ حاضريه بوجوده إلى الاستغراق في الحديث عن سيّد الأوقات والمسافات – لمن كان مثلنا: (الشعر)..
وفي اجتماعنا المصغّر الأخير، كنا نتحدث عن الجهات والأسماء والمسميات الدخيلة (المتطفلة فضولاً) على هذا العالم الخرافيّ الصعب، والتي تدّعي رعايتها لما لم تستطع حتى الوصول إلى وعيه المجنون وقيمته المساوية للريح والروح معاً..
أخذنا الحديث نحو ما يسمى (مسابقات شعرية) وكأنما استبدلنا لاعبي المطاط الرخو بمبارزي السيوف وأسنة الرماح المسافرة أبداً بين الضلوع..
تذكرتُ أثناء الحديث مسابقة كانت تعرض على إحدى الشاشات العربية بمسمّىً غير شرعيّ أبداً (أمير الشعراء!) وذكرتُ لصديقي أنني تابعتُ ذات مصادفة إحدى حلقات ذلك البرنامج، واستوقفني بيتٌ لشاعرة شابة من الجزائر اسمها (حنين عمر) ولم أكن منصتاً حين ألقت الشاعرة قصيدتها، بينما لفتَ انتباهي وشدّني حدَّ التوقف عجزُ بيتٍ واحدٍ في القصيدة – كما حسبته:
(قدرٌ لوردي أن يكفّنَ قاطفه)!
كتبتُ في ذلك الحين مقالة ضد (لجنة التحكيم) التي لم تنتبه لأيّ شيء جميلٍ في قصيدة الشاعرة، بل انهالت عليها بعبارات قاسية وكأنّ الشعر أعطاهم وكالة لطرد من لا يوافقون على انضمامه لأسرة الشعراء!
قلتُ حينها، ما معناه أن العبارة الصغيرة المذكورة من قصيدة حنين عمر هي فوق مستوى كل ما قيل من شعر في ليلتهم تلك وباركته لجنة تحكيم تلك المسابقة!
فيما بعد تواصلت معي الشاعرة وأخبرتني بدهشتها في تحويري (العفوي) لما قالته، فقد كان قولها:
(ما ضرَّ وردي أيّ كفٍّ قاطفه)!
بالطبع أنا لم أقصد إصلاح البيت الذي قالته، فالخطأ واضح والمعنى لم يكن كما سمعته وكتبتُ عنه، ولكنه (القدر) أصلح ما حسّنهُ الصوتُ!
تلك حالة طريفة مع شاعرة شابة في مسابقة مسلية، أوردتها هنا للمفارقة – لا المقاربة – حول طريقتي في تذوق الشعر، وكيف تأخذني عبارةٌ واحدةٌ منه وتستوقفني لحظاتٍ مطوّلة بمنأى عما قبلها أو بعدها! أمّا الحال مع ديوان (اليأس من الوردة) للشاعر الكبير محمد علي شمس الدين، الصادر حديثاً عن دار الآداب ببيروت، فمختلفٌ نوعياً.. بينما طريقتي لم تختلف شكلياً!
فمنذ تصفحي الأوليّ للديوان استوقفني مقطعٌ شعريّ بمنتهى الفخامة والعمق المتجلّي نحو السموّ:
(معزولٌ سِرُّكَ فيكْ
لم تلفظ للعالم ما يُشقيكْ
فارحلْ
مثلَ امرأةٍ عذراءْ
وُلدتْ ماتتْ في الصحراءْ)
أقول هنا، عن هذا المقطع لا أكثر: إذا كان مجرد فقرة في قصيدة من الديوان عنوانها (مرايا الأعمى) فلقد قال فيه الشاعر ما يختصر مسافاتٍ بعيدةٍ من النحت الشعريّ في فلسفة الوجود ضمن (الكون والعدم) في هذا العالم الآخذ دوماً نحو الترحال.. فكما للأعمى مرايا، كذلك للسرّ عزلته، وللعزلة سرّها، وللرحيل ميلادٌ وموتٌ، وللصحراء عذراؤها..!
ويبقى عنوان الديوان (اليأس من الوردة) شاهداً على كلّ تلك الأشياء، فإن كان ثمة وردة فثمة يأس.. وإن كتب الشاعر في إهدائه لي: (.. أهديك الوردة وليس اليأس!) فهذا لا يعني أن الوردة شعرٌ دون يأس!
كذلك لا يعني العكس! ولكنه يعني، في تصوّري، أن (اليأس من الوردة) يشكّل مرحلة مزدوجة في مسيرة الشاعر، بعضها جميلٌ كالوردة، وبعضها قاسٍ كاليأس، وفي كلّ حالاتها متخمةٌ بالشعر..
f-a-akram@maktoob.com
بيروت