توقفت في المقالة السابقة عند تقاطع مفهوم راهنية الأدب في الأدب الملتزم مع مقولة (بودلير) (تأبيد العابر)، حيث يكمن المثل الأعلى الجمالي في التأبيد اللحظي. وهو مفهوم مناقض مناقضة صارخة للراهنية الملتزمة، ولذلك التصقت بالأدب الملتزم صفة أدب الاستعجال. فوفق (سارتر) فإن الاختيار الأخلاقي، وإرادة المشاركة، والاستعجال، جميعها ملامح تُعد أول ما يميز الأدب الملتزم.(1)
ومع أن هوس التأخر يدفع إلى سمة اللهاث وملاحقة الراهن المتحرك السريع مما يؤدي إلى سمة الاستعجال، إلا أن ذلك يؤدي -من وجهة نظر الدارسين- إلى سمة تبدو في ظاهرها سلبية، وهي تدمير الصورة الشائعة عن الأدب والكاتب، ولعله لهذا السبب سمي (سارتر) (مدمر الأدب).
ولكن (بينوا دونيس) يدافع عن الالتزام بوصفه معتديًا على جوهر الأدب وصورته، لأنه -كما يقول- ثمة توازن يُخلق من هذا الاعتداء؛ يتمثل في شعار (سارتر) الذي ينادي بإنقاذ الأدب لأن: "الكاتب الملتزم يخشى من أن أدبًا منشغلاً فقط بنفسه ومعزولاً عن العالم يفقد سبب وجوده، ويكف عن أن يكون ضروريًا. منذ ذاك فإن (إنقاذ الأدب) بواسطة الالتزام يكمن في المراهنة عليه، وفي تأكيد أن له دورًا يضطلع به، ويجب أن يكون له شأن في حياة الناس." (2)
ومع اجتهادات سارتر وإضرابه ومناوئيه والمدافعين عنه فإن اللافت للنظر في مثل هذه التدافعات بين التيارات المتعاقبة أو حتى المتدافعة فيما بينها والمتداخلة أحيانًا أن المتأمل يلاحظ أن عمى نظريًا ومنهجيًا يصيب المدافعين عن أو المتهجمين على تيار أو فكرة أدبية أو نقدية لالتباسها بمفاهيم زمنية أو أيديولوجية معينة. وكأن على الأدب أن يكون مسخًا متلونًا حسب الوقائع والأحداث وبعيدًا عن جوهره الإنساني يخلع جلده، ويبدل نفسه على أعتاب الحقب ومع دورات منهكة أو مجنونة مع هذا التيار أو ذاك، تارة بصفة الالتزام وتارة بصفة الحداثة، وتارة بصفة ما بعد الحداثة، وتارة مغموسًا في السديم والعبث والسريالية، وتارة في العودة القهقري إلى عالم الكهف.
وكأن على الفن والأدب (والقارئ معهما) أن يسيرا بهمةٍ على إيقاع متسارع، لزمن وعصر -في غالب الأحوال وفي أحسن الظن- لا يعرف ماذا يريد وأين يتجه؟ والأدب بهذه الحال من الاستسلام لآلية الانقذاف يتجه ضرورة نحو فلسفة التشظيات المعاصرة ثم عليه أن يخرج بعد ذلك وفي انتظاره موضات وموجات جديدة عليه أن يعيشها وأن يعيش بها!!.
***
1 - بينوا دونيس، مقالة معنى الالتزام، ترجمة محمد برادة.
2 - المصدر السابق.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7845» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
Rafef_fa@maktoob.com