في كتابه (الماهية والعلاقة نحو منطق تحويلي) يصف المفكر المعروف علي حرب «الكانطي» في عقلانيته -نسبة إلى كانط- و»الدريدي» في تفكيكيته والذي أبدى اهتماما ملحوظا في مزاولة الاشتغال على ترحيل شبكة المتبنيات التفكيكية وإسقاطها على الواقع العربي، هذا المفكر -المخالف على طول الخط لفكر ابن تيمية- يصف ابن تيمية بأنه أهم وأبرز وأخطر ناقد للمنطق الصوري.
ولا غرو في ذلك فقد أبدع ابن تيمية جملة من الأسفار المحتوية على ابتكارات مفهومية وكيانات عقلانية معارضة لكثير من محتويات المنطق الأرسطي بفعل إفضائها إلى العدمية اللاغائية، وقد تاه جلّ هاتيك الأسفار ولكن يوجد منها كتاب نقد المنطق والرد على المنطقيين الذي لخصه السيوطي معنوناً له ب(جهد القريحة في تجريد النصيحة) وقد طال نقد أولئك الذين تبنوا تبْيِئة المنطق كالفارابي وابن حزم في (التقريب لحد المنطق) وابن سينا في (الإشارات والتنبيهات) والغزالي في (معيار العلم) و(القسطاس المستقيم) الذي حاول فيه إثبات أن القرآن الكريم استعمل أنماط التفكير المنطقي في قضاياه المتباينة وأنه احتوى على كافة قوالب القياس والتي ينعتها الغزالي بالموازين وهو يسمي (القياس الحملي) ميزان التعادل أما (القياس الشرطي المتصل) فهو ميزان التلازم، وأما (القياس الشرطي المنفصل) فهو ميزان التعاند، ويقرر أبو حامد أن المنطق من العلوم المشتركة بين الأمم وليس ثمة تفرد للفلاسفة إلا من ناحية المصطلحات ويمثل لذلك بمصطلحي: الموضوع والمحمول ومصطلح الحد الأوسط عند المناطقة الذي هو العلة عند الأصوليين. وهو بذلك يؤكد أن الخلاف بين الفلاسفة ونظار المسلمين أنه ليس إلا من قبيل الخلاف اللفظي فحسب.
وعودا على بدء فإن ابن تيمية كانت له صولات وجولات في حقل المنطق حيث أبدع في خلق هوامش للفعل والحركة في سبيل توسيع مساحة المعنى وإغناء عالم المفهوم المنطقي تشخيصاً ونعتاً وتحليلاً وتعليلاً وكشفاً وتعرية وتفكيكاً وهنا سأشير بإيجاز إلى موقفه من (المقام الموجب) حيث نقده موجهاً إليه عدة حججٍ منها.
أولاً:
يقرر ابن تيمية أن الحد لا يفيد معرفة المحدود وذلك أن الحد كقضية حملية هو في حقيقته خبر فثمة موضوع وثمة محمول والعلاقة بينهما ونسبة أحدهما إلى الآخر هي مجرد دعوى قابلة للصدق والخطأ بنسبة متوازنة ولذا فلا بد من إقامة الدليل على مصداقيتها فإيرادها على نحو مجرد غير مدلل يبقيها في دائرة الدعوى وعلى هذا فالحد لا يفيد العلم التصوري لأن المتلقي لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قد تناهى إلى ذهنه تصور المحدود قبل أن يجري إجراء الحد له، أو لا يكون قد تصوره، فإن كان الأول فالحد لم يضف إليه شيئاً ذا بال وإن كان الثاني فخبر الحاد قضية خبرية يرِد عليها الصواب وعدمه وبما أنها هنا مجرد دعوى مفتقرة لما يثبتها فإنها لا تفيد العلم (فتبين على التقديرين أن الحد لا يفيد معرفة المحدود) (نقض المنطق، الفتاوى 9-91).
ثانياً:
يؤكد أن تصور المحدود بالحد شأن يتعذر تموقعه من غير العلم بتوفر الحاد على المصداقية التي لا تُستقى بالخبر المجرد فحسب ولا يتسنى الوقوف عليها بمجرد الحد. يقول رحمه الله (تصور المحدود بالحد لا يمكن بدون العلم بصدق قول الحاد وصدق قوله لا يعلم بمجرد الخبر، فلا يعلم المحدود بالحد) (9-92) ويقصد ابن تيمية أن خبر الواحد بلا دليل لا يفيد العلم والحد خبر واحد ولا دليل على صدقه ويتعجب ابن تيمية أنهم مع قبولهم لخبر الواحد الفاقد للدليل أنهم مع ذلك (يعيبون على من يعتمد في الأمور السمعية على نقل الواحد الذي معه من القرائن ما يفيد المستمع العالم بها العلم اليقيني) (9-92).
ثالثاً:
وهنا يأتي دور (الدور) وهو أنه إذا كان تصور المحدود ومعرفة عينه يستقى من الحد فهذا يستلزم العلم بصحة الحد لأنه سبيلنا نحو العلم بصحة المحدود الذي صحته مشروطة بصحة الحد الذي هو الآخر يخضع في تأكيد صحته لمعرفة المحدود، وهذا يجعل الفكرة تأخذ منحى دائري تموت فيه الحركة في نقطة البداية وهو ما يقرره ابن تيمية وأن هذا ليس إلا (دورا، والدور محال، وما لزم عن المحال محال، فمن الممتنع معرفة صحة الحد، إذن الحد لا يفيد تصور المحدود) (الرد على المنطقيين 1-119).
رابعاً:
معرفة الماهية مشروطة بمعرفة الصفات الذاتية التي هي الأخرى يتعذر العلم بها إلا بواسطة معرفة الماهية وهذا يلزم منه (الدور) حيث لا يعقل هذا إلا بعد استبانة ذاك، ولا يُفقه ذاك إلا بعد استجلاء حقيقة هذا. ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: (تتوقف معرفة الذات - التي هي الماهية - على معرفة الذاتيات، وتتوقف معرفة الذاتيات - أي معرفة كونها هي الذاتيات لهذه الماهية دون سواها من اللوازم - على معرفة الذات. فيتوقف معرفتها على معرفتها. فلا يعرف هو ولا تعرف الذاتيات) انظر (نقض المنطق، الفتاوى9-102,101).
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة