المثقف ليس معصومًا عن الخطأ، بل هو إنسان عادي يمكن أن يسيء التصرف، أو يرتكب أخطاء تعيق تنفيذ بعض الخطط التنموية الثقافية، وعندها لن يُنظر له إلا بمنظار النخبة فتقف منه السلطة موقفًا صارمًا فتقيله أو تصرّح بعدم أهليته لقيادة العمل الثقافي، أو تلوّح بين حينٍ وآخر بتهديدات توحي بدورها السلطوي وتاريخها الممتد عبر العصور من خلال تلك العلاقة المعقدة بين المثقف والسلطة، مما حوّلها في كثير من الأحيان إلى إشكالية لها أنماط عديدة لسنا بصدد الحديث عنها هنا.
ولكننا نمهّد بها إلى علاقة المثقف السعودي بسلطة وزارة الثقافة والإعلام، خاصة في المرحلة الجديدة التي تعيشها الثقافة المحلية في ظل الوزارة الحاليّة التي يقودها وزير مثقف فتح سياسة النقد البناء بشكل غير مسبوق، وشجّع حرية التعبير عن الرأي، والشفافية في التعاطي مع قضايا الثقافة والمثقفين، ولكن ماذا يعني تهديد وكيل وزارة الثقافة الصريح لرؤساء الأندية والمثقفين المسؤولين بالإقالة لمن ( يعجز عن النهوض بالعمل الثقافي وعدم القدرة على مواكبة الخطط الطموحة للوزارة)؟ فهل هذا التصريح يشي جهرًا بأنّ ( الوزارة تخطط لإعادة هيكلة هذه المؤسسات من الداخل)؟
إنّ إشكالية التجديد أخطر من فهمها بسطحية، فالتجديد يعني إعادة قراءة ما أنتج سلفًا بعقلانية متزامنة مع حاجات الثقافة و قضايا المثقف في المرحلة الراهنة، والوزارة عندما تطرح قضية التجديد فهي تطرح قضية هامة و شاقة معا! بل قد تكون مصيرية تكشف عن رؤية مستقبلية للعمل الثقافي المؤسساتي، فتحفز على الإبداع، و قد تكون دون المستوى المأمول منها فتخلق روح الخيبة والإحباط لدى كثير من المثقفين المنتظرين لجدوى التغيير، أو على الأقل لتحقيق ما هو جدير بمكانة الثقافة والمثقفين على جميع المستويات، فثقافتنا لابد أن تقوم على الأمل، و على النظر بإيجابية للعمل الثقافي المنجز وإن ظهر به بعض القصور، وكلنا يعلم بوجود قصور في إدارة كثير من المؤسسات الثقافية، ولا عجب في ذلك إن كان كل مجلس إدارة يسير وفق مقولة (نعمل ما تيسّر) فلن نتجاوز المراحل السابقة أبداً، وفرق بين من يعمل لمجرد العمل فقط، وبين من يعمل ولديه رؤية محدّدة تقوم عليها رسالة واضحة تسعى من خلالها لتحقيق أهداف الخطط والبرامج المدروسة وليست الموضوعة وفق ما اتفق. وعندما تطالب الوزارة المثقف بالنهوض بالعمل الثقافي وعدم الركون لحجج واهية كما تراها، بينما لا تقدّم هي نموذجاً لهذا الطموح، يصبح الرهان على تقدمية العمل الثقافي مقيّد بأمرين: أولها التأهيل والكفاءة اللازمة لإدارة المؤسسة الثقافية، و ثانيها القدرة على تجاوز العقبات والعوائق التي تعطل العمل الثقافي، وكلاهما بالفعل أمر ضروري لنجاح المؤسسة الثقافية التي فشل كثير من المثقفين في إدارتها كما صرح بذلك وكيل الوزارة السابق الدكتور عبدالعزيز السبيل، ذلك لأنّ أغلب القائمين على العمل الثقافي أكاديميون ليس بالضرورة أن يكونوا قادرين على حسن إدارة الثقافة، فتلك درجة علمية تؤهله للاضطلاع بمهام البحث والاستقصاء لإثبات قضية أو معالجة إشكالية، لكنها لا تعني قدرته على النهوض بالهم الثقافي واستيعاب فن الإدارة و التغلب على الأزمات، لتحقيق النجاح المطلوب لرسالة المؤسسة، ولذا كانت الاستقالات السابقة خير دليل على أنّ المثقف هو من يحمل هموم الثقافة، ويعي جيداً تحولات المرحلة التي تعيشها ثقافته ويؤمن بالعمل الجماعي القادر على تجاوز العقبات والوصول بمؤسسته إلى أعلى مستوى يحقق جزءا كبيراً من أهدافها، لكن الوزارة نفسها وقعت في نفس المأزق الذي أخذته على المثقفين، و يصبح من حقنا كمثقفين التساؤل عن تلك الوعود التي أطلقتها الوزارة منذ عام 1425هـ في الملتقى الأول للمثقفين السعوديين، والذي خرج بتوصيات كان أهمها: إنشاء مراكز ثقافية حديثة، ووضع الخطة الاستراتيجية لواقع المؤسسات الثقافية، و إقرار الجوائز الأدبية والثقافية، و تفعيل دور المرأة الثقافي، والاهتمام بثقافة الطفل، ودعم المكتبات العامة و ...إلخ، فكانت الأحلام كبيرة بحجم فضاء العمل الثقافي وظلت الوزارة تعد بقرب تحقيقها على أرض الواقع، ومرت سنوات و لم يحدث تغيير في قضايا بقيت معلّقة، فلا المرأة المثقفة أخذت وضعها الصحيح كعضو فاعل في الأندية الأدبية، ولا الوعود بدعم ثقافة الطفل تحققت، ولم تر لائحة الأندية الأدبية النور إلى اليوم، وظلت الجوائز الأدبية معلقة حتى إشعار آخر، وبات الحديث عن المراكز الثقافية حلماً يُحكى في مجالس المثقفين، ناهيك عن الوعود الأخرى كاتحاد الكتاب السعوديين، وصندوق دعم الأدباء، كلها بقيت مؤجلة ولم نشهد ولادة فعلية لها، من هنا نتساءل: من عطّل كل تلك المشاريع والخطط الثقافية عن الخروج إلى دائرة الضوء والفعل الحقيقي؟
و أعتقد أنّ خمس سنوات مضت على تلك التوصيات كفيلة بنضجها في مختبرات الوزارة لنراها اليوم ثمارًا يانعة يسعد المثقفون بقطافها بعد أن آتت أكلها، ذلك لأنّ إنتاج الثقافة يقوم به المبدعون والمثقفون، أما الوزارة فتضع هذا المبدع في مناخ يمكنه من الإبداع بحرية، فالهدف الأسمى هو الهدف التنموي الثقافي الذي يسعى لبناء القدرات الإبداعية بالدرجة الأولى، من خلال تأسيس وعي ثقافي لدى المثقف والمجتمع على حد سواء بدور كل منهما في خدمة قضايا الإبداع والثقافة، بما يساعدنا على إعادة ترتيب أولويات العمل الثقافي وتعزيز القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة وتنفيذها، هذا إن أردنا فعلا تجاوز أزمة الوعي الاستسلامي في مؤسساتنا الثقافية، من أجل مراجعة ناقدة فاحصة لكل ما أنجزه القائمون على المؤسسات الثقافية في عهودها المختلفة، ولعل هذا الوعي يقودنا إلى مرحلة جديدة من الثقافة الواعية والمسؤولة، و يختصر الكثير من الوقت فلسنا بحاجة إلى فترات أخرى نضيّع فيها جهودًا وطاقات بلا جدوى، إنه زمن العمل.
جدة