أولِعَ كثيرٌ من مَّن يتعاطَى التصحيح اللُّغويَّ بتخطئةِ قولِ العامَّة: (أعتذرُ من الحضورِ) من قِبَلِ أنَّ الاعتذارَ إنما يكونُ من الذنبِ، والخطأ. والحضورُ لم يقع. ولو وقعَ، لكانَ قاطعًا للاعتذارِ، لا موجِبًا له. ويرونَ أنَّ الصوابَ: (أعتذرُ من عدمِ الحضورِ، أو من تركِ الحضورِ، أو من التخلُّفِ عن الحضور، أو من الغِيابِ). وهذا الذي رأوه هو الصوابَ لا ريبَ أنَّه صوابٌ، ولكنَّ الوجهَ الذي خطؤه صوابٌ أيضًا. وذلكَ على أن يكونَ إيجازًا بالحذفِ. وهو راجعٌ إلى قياسينِ:
الأولُ: قياسٌ عامٌّ. وذلك على مطلقِ الحذفِ. وهو كثيرٌ في كلامِهم. وأشهرُ ما يستدلُّونَ به عليه قولُه تعالَى: (واسألِ القريةَ) أي: أهل القريةِ. فحذفَ (أهل)، وأنابَ المضافَ إليه مُنابَه.
الثاني: قياسٌ أخصُّ. وذلك على حذفِ (عدَمٍ)، أو (ترْكٍ) خاصَّةً. وقد شغلتني هذه المسألةُ زمنًا، وما زلتُ أتتبعُ لها الشواهدَ، حتى اجتمعَ لي من ذلكَ قدرٌ صالحٌ، منه قولُ النابغةِ الذبيانيِّ:
فإني لا ألامُ على دخولٍ
ولكن ما وراءَك يا عِصامُ
قالَ ثعلب في (شرح ديوان الخنساء): (أي: لا ألام على تركي الدخولَ، لأني محجوبٌ عنه). وقال ابن فارس في (الصاحبي): ( يقول: لا ألام على ترك الدخول، لأن النعمانَ قد كان نذرَ دمَه متى رآه، فخاطبَ بهذا الكلام حاجبَه).
وقالَ قيسُ بن رِفاعة:
أنا النذير لكم منِّي مناصحةً
كي لا ألامَ على نَهي، وإنذارِ
قالَ أبو عبيدٍ البكريُّ في (اللآلي): (أي: على تركِ نهيٍ).
وقالَت الخنساءُ:
يا صخرُ، ورَّادَ ماءٍ قد تناذَرَه
أهلُ المواردِ ما في وِردِه عارُ
قالَ ثعلب في (شرح ديوانها): (أرادت: ما في تركِ وردِه عارٌ. أي: ليس يُعيَّر أحدٌ أن يعجِز عنه، من صعوبة وردِه).
وقالَ المرقِّش الأكبر:
ليس على طولِ الحياةِ ندَمْ
ومن وراء المرء ما يعلمْ
قالَ ثعلب في (شرح ديوان الخنساء): (أي: ليس على فوتِ طولِ الحياةِ ما يُندَم عليه، لأنَّ ذلك يؤدي إلى الهرم، وفساد العيش).
وقالَ ثعلبة العبديُّ:
وأهلكَ مُهْرَ أبيك الدوا
ءُ ليسَ له من طعامٍ نصيبُ
قالَ أبو محمدٍ الأنباريُّ في (شرح المفضليات): (أرادَ: أهلكَه تركُ الدواءِ).
وقالَ حِطَّان بن المعلَّى:
وغالني الدهرُ بوَفر الغنى
فليس لي مالٌ سِوى عرضي
قلتُ: أي: بعدَم وفرِ الغنى.
وذلكَ الحذفُ معقودٌ على أن يكونَ في الكلامِ، أو الحالِ ما يَدلُّ على المحذوفِ، ويخبرُ عنه. ولذلكَ فإن قولَ القائل: (أعتذر من الحضور) صحيحٌ، إذْ كانَ في معرفةِ المخاطَب بعدمِ حضورِه، وكونِ الحضورِ من مَّا لا يقتضي الاعتذارَ، ما يغني عن ذكرِ هذا اللفظِ، ويَدلُّ عليه.
وأحبُّ أن أبيِّنَ أنَّه قد احتجَّ بالقياس العامِّ بعضُ من صحَّحَ هذا الأسلوبَ. فأمَّا القياسُ الخاصُّ، فلم أقِف على من ذكرَ شيئًا من شواهدِه التي سقتُها آنِفًا.
وهذه المسألة تقودنا إلى مسألةٍ أخرَى متصلة منها بسبب. وذلكَ أنَّ المسموعَ عنِ العربِ في تعدية (اعتذرَ) إلى الموجِبِ له إنما هو ب(من). ولم يُسمَع تعديتُها ب(عن) في ما اطلعتُ عليه. وقد حملَ هذا بعضَ من كتبَ في قضايا التصحيحِ على أن يُخطِّئ قولَهم: (اعتذرت عن عدمِ الحضور). وهذه التخطئة غيرُ مسلَّمٍ بها، فإنَّ التعديةَ ب(عن) جائزةٌ قياسًا، وإن لم يُسعف بها سَماعٌ. وذلك أنَّ حروفَ الجرِّ مقيسةٌ في رأيي متَى ما لاءَمَت معنَى الفِعلِ، وسايرته. وهذا الأمر مفضٍ بنا إلى بابٍ من النَّحوِ ذي شعبٍ فسيحةٍ، ومسالكَ ملتويةٍ، غيرَ أنّي أجتزِئ بمثالٍ واحدٍ ينبئ عن أصلِ البابِ، ومنهاجِ النظرِ فيه، وهو كلمةُ (بعُد)، فإنهم عدَّوها ب(مِن) كما قالَ دُريدُ بن الصِّمَّةِ:
كميشُ الإزارِ، خارجٌ نِصفُ ساقِهِ
بعيدٌ من الآفاتِ، طلاعُ أنجدِ
و(عن) كما قالَ تعالَى: (أولئكَ عنها مبعدون)، و(علَى) كما قالَ جميلُ بُثينة:
بعيدٌ على مَن ليسَ يطلبُ حاجةً
وأمَّا على ذي حاجةٍ فقريبُ
ولكلٍّ وجهٌ من التأويلِ يُطيعُ له المعنَى. وكذلكَ قياسُ سائرِ البابِ عندي.
فأمَّا (اعتذر)، فإنَّهم عدَّوه ب(مِن) لأنَّ (الاعتذار) طلبٌ للخروجِ من المَلامة. فلمَّا كانَ له مبتدَأ يفارِقُه، اقتضَى التعديَ بهذا الحرفِ. وإذا كان ذلكَ كذلكَ، لم يمتنع أن يتعدَّى ب(عن) أيضًا، لأنَّ الانتقالَ من شيءٍ مجاوزةٌ له، كما تقول: (خرج منه وعنه)، و(سار منه وعنه)، و(مشى منه وعنه)، و(انطلق منه وعنه)، و(ذهب منه وعنه)، و(أدبر منه وعنه). والعربُ ممَّا تتوخَّى هذا المذهبَ في كلامِها، وتجرِي منه على قياسٍ، ألا ترَى أنَّهم قالوا: (عضَّه وعضَّ عليه)، و(أزمَه وأزمَ عليه)، و(قبضَه وقبضَ عليه)، وقالوا أيضًا: (غطَّاه وغطَّى عليه)، و(طمسَه وطمسَ عليه)، و(جنَّه وجنَّ عليه) فعاورتْ بينَ تعديةِ هذه الأفعالِ بنفسِها، وبينَ تعديتِها ب(علَى)، إذْ كانَ لها أصلٌ واحدٌ من المعنَى تُنمَى إليه. وكما قالوا: (قصدَه وقصد إليه)، و(عمَده وعمَد إليه)، و(جاءَه وجاء إليه)، و(أتاه وأتى إليه)، و (وصله ووصلَ إليه)، فعدَّوها بنفسِها، وعدَّوها ب(إلى)، إذْ كانَ معناها صالحًا لكلا الوجهينِ. والعامَّة تقولُ: (حجَّ إلى البيت الحرام ) قياسًا على هذا مع أن المسموعَ تعديةُ هذا الفعلِ بنفسِه. وقالت العربُ أيضًا: (جرَى إليه وله)، و(عادَ إليه وله)، و(ساقَه إليه وله)، وغيرَ ذلكَ من مَّا يطابِقُ معنَاه هذا المعنَى، كقولك: (ذهبت إليه وله). فتعدِّيه ب(إلى)، لأنَّ (الذهابَ) لا بُدَّ له من غايةٍ ينتهي إليها، وتعدِّيه باللامِ، لأنَّ من كانَ هو غايتَك التي تريدُ بلوغَها فإنَّ ذهابَك إنما كانَ لأجلِه. فمن هذا الوجهِ جازَ أن يتعدَّى باللام الدالَّة على التعليلِ. وليس بصوابٍ قولُ من جعلَ من معاني اللام الدلالةَ على انتهاء الغايةِ، فإنَّه ليس معانيها هذا المعنَى عندَ التأمُّلِ. فأمَّا وقوعُها في المواضعِ التي أوردتُّ موقعَ (إلى)، فليسَ لأنها بمعناها، وإنما ذلكَ لأنَّ الغايةَ عِلَّة لوقوعِ الفعلِ كما تقدَّم بيانُه. وقالوا أيضًا: (أفَّفه وأفَّفَ به)، و(ناداه ونادى به)، فعدَّوا ما دلَّ على هذا المعنَى بنفسه، وبالباء. وكلُّ ذلك ممَّا يقرِّر صوابَ ما ذكرتُ مِن أنَّ حروفَ الجرِّ قياسٌ، ولكن بعدَ أن تُحرَّر معانيها، ويُرحَضَ عنها ما حُمِلَ عليها (مِن اللَّغَا ورفثِ التكلُّمِ)!
faysalmansour@gmail.com
مكة المكرمة