لم تكن الخيل في زمنها الذهبيّ، كما هي في حاضرها الآن:
" كانت الخيلُ برِّيَّة
تتنفس حريّةً
مثلما يتنفسها الناس
فى ذلك الزمن الذهبيّ النبيلْ".
ثم دار الزمان دورته، فاستسلم ظهرها الذي لم يوطأ، ولانَ جسدها الحر تحت سياط المروّض، وامتثل فمها للّجام، وأضحت الساق مشكولة، وأثقلَ السنبك المعدنيّ حوافرَها، بعد أنْ:
" كانت الخيلُ - فى البدءِ- كالناسِ
بريةً تتراكضُ عبر السهولْ
كانت الخيلُ كالناسِ فى البدءِ
تمتلكُ الشمسَ والعشبَ
والملكوت الظليلْ ".
وهذا الارتباط الوثيق بين الخيل والناس هو المغزى الرئيسي للقصيدة.. هو لبّ القصيدة، لأن ما وقع على الخيل -التي نقلت الناسَ للناسِ عبر المكان- وقع على الناس أيضاً، حين انقسموا عبرها إلى مشاةٍ وركبان، وانحدروا انحدارها، من هزيمةٍ إلى هزيمة، ومن هوان إلى هوان:
" والخيول التى انحدرت نحو هوّة نسيانها
حملتْ معها جيلَ فرسانها
تركت خلفها: دمعةَ الندمِ الأبديّ
وأشباحَ خيلٍ
وأشباهَ فرسانْ
ومشاة يسيرون- حتى النهاية - تحت ظلال الهوانْ ".
وهكذا ظل الشاعر المبدع عبر رصده للتفاصيل، وملاحظاته الدقيقة، وموقفه الثابت الأصيل كالخيل العربية النبيلة الأصيلة، لصيقاً بتربته وقضيته، القضية الأساس التي أعطاها عمره وفنه، منذ بكائه بين يدي زرقاء اليمامة، وحتى آخر ورقة من أوراق غرفته الثامنة، وهو حين يتساءل.. يتساءل بحرقة الرائي المحترق بجمر الواقع، الحالم برفع لعنة الانتظار الطويل:
" ماذا تبقى لكِ الآن؟ ماذا؟!
سوى عرقٍ يتصبّبُ من تعبٍ
يستحيل دنانيرَ من ذهبٍ
في جيوب هواةِ سلالاتك العربيّة
في حلبات المراهنةِ الدائريّة
في نزهة المركبات السياحية المشتهاة
وفي المتعة المشتراة
وفي المرأة الأجنبية تعلوكِ تحت ظلالِ أبى الهولِ
( هذا الذي كسرتْ أنفَهُ لعنةُ الانتظارِ الطويلْ )."
هكذا سارت وصارت الخيل، وهكذا تسير الناس، وهكذا سار أمل دنقل نحو موته، لكن بشكل مختلف لأنه رفع صوته ورايته بالحق فلم يصالح، ولم يصافح، بل دوّن اسمه في صفحات التاريخ بذهب ودم النبل والشرف:
" استدارت – إلى الغربِ – مزولة الوقتْ
صارتِ الخيلُ ناساً تسيرُ إلى هوَّةِ الصمتْ
بينما الناسُ خيلٌ تسيرُ إلى هوَّةِ الموْتْ!!"
الرياض
mjharbi@hotmail.com