حسناً، ها قد مر أسبوع آخر على تهديدات سعادة وكيل وزارة الثقافة الدكتور عبدالله الجاسر للعاملين في الحقل الثقافي والإعلامي بأن من لا يتوافر فيه التأهيل الثقافي أو الإداري أو القيادي فعليه أن يستقيل قبل أن يُقال. ها قد مر الأسبوع الثاني ولم يتحرك أحد: لم يتقدم عضو واحد من أي مجلس إدارة إعلامي ولا ثقافي بالاستقالة. وإن كان التهديد قد أخذ شكل الاشتراط، فعلى الوزارة أن تخطو خطوتها المتوقعة: أن تصدر الإقالات!
لكن الوزارة لن تتحرك أيضاً. المشكلة عويصة، ومنطق التهديد غير منتظم. لا بد أن نعود لتأمل التهديد جيداً: التبعيض الأول يستثني ويفتح باب الاحتمال في الوقت نفسه: جملة الشرط «من لا يتوافر فيه التأهيل» تشير إلى بعض من الأعضاء هكذا صفته، لكنها تشير أيضاً إلى بعض آخر ممن يتوافر فيه التأهيل، وذلك يوقع كل عضو مجلس إدارة في حيرة ما بعدها حيرة. إن تقدم باستقالته فهو يحقق المقولة الشرطية، وتتحول استقالته إلى اعتراف شخصي منه بعدم التأهل. وإن أمسك عن الاستقالة فيكون أيضاً من زمرة غير المؤهلين الذين ربما يتحقق في أمرهم جواب الشرط، وتصعقهم الوزارة بإقالة مدوية لعدم رضاها عن مستوى تأهله.
تذكرني هذه الورطة بورطة تلك المرأة التي وجدها زوجها ترتقي درجات السلم، فقال لها: «إن صعدت فأنت طالق، وإن نزلت فأنت طالق». وتجمدت المسكينة على درجتها خوفاً من الطلاق المحتوم. والآن يتجمد أعضاء المجالس على كراسيهم وقد أعيتهم الحيلة، فلا هم قادرون على إعلان خروجهم خوفاً من أن يقال إنهم استقالوا بعد أن تأملوا كفاءاتهم وقيّموا قدراتهم ذاتياً فوجدوا أنهم، كما وصفهم الوكيل في تهديده، ضعفاء وعاجزون عن العمل. ولا هم أيضاً في حالة طمأنينة تامة لبقائهم وذلك التهديد يئز فوق رؤوسهم، وهم لا يعرفون متى ستقع فردة الحذاء الأخرى، كما يقول المثل الإنجليزي: إن وقعت فردة حذاء، فلا بد أن تليها الأخرى.
ويخيل إليّ أن هؤلاء الأعضاء جميعاً قد اتفقوا ضمنياً، وربما دون تواصل بينهم، على عدم أخذ هذا التهديد على محمل الجد وأن يريحوا أنفسهم من التفكير في محتواه، وإلا كيف نفسر هذا الصمت المريب، وكأن المحتوى لم يخص أحدا منهم؟ أنا شخصياً اعتراني بعض الخوف وهبْت الخطوة القادمة، فما بالهم وهم أصحاب الشأن لا يطرف لهم جفن؟
لا بد أن المخرج الوحيد لهذه المعضلة هو أن نميل جميعاً إلى تفسير واحد، وهو أن سعادة الوكيل لم يقصد المعنى الذي ذهب إليه ذلك التهديد. ربما كل ما أراد قوله هو أن بعض الأعضاء الذين يثيرون الشغب، ويفتعلون المشاكل، ويهرعون للوزارة بالتشاكي والتخاصم، ويضيعون الوقت الثمين المخصص للنشاط الثقافي، هم الذين لا تأهيل عندهم يسمح ببقائهم في الصرح الثقافي. هؤلاء المشاغبون سيعرفون أنفسهم بالطبع؛ فالمسألة واضحة ولا تحتاج إلى تقييم ذاتي مكثف، ولا تقييم خارجي تجريه الوزارة عن بُعد. وبالطبع، فإن هذا التفسير يستند إلى حادثة إقالة تدخلت بها الوزارة وحسمت بصرامة صراعا شغبيا سابقا؛ لذلك فالمنطق يقول إن من يفعل ما شابه ذلك الفعل ففي ذلك دليل على انعدام التأهل، وبناء عليه ستتم الإقالة.
ها قد انزاح العبء من فوق أكتافنا، فالوزارة لا شك لديها أن ليس من بين الأعضاء «كيانات ثقافية يعتريها العجز والضعف»، وألا غبار على كفاءاتهم وإمكاناتهم، كيف لا وهي التي أصدرت لهم تمديداً ينم عن رضاها عنهم جميعاً. ولو كان لدى الوزارة اعتراض على أي من الأعضاء لاغتنمت فرصة انتهاء فترات تكليفاتهم الرسمية، وتخلصت من ضعفائهم وعاجزيهم، وعينت بدلاً منهم مَنْ تتوسم فيهم القوة والقدرة. لكن الوزارة آثرت الإبقاء على الأعضاء وجدَّدت لهم التكليف، وهي بذلك لا تستطيع أن تلقي بلائمة التعيين الاصطفائي على مَنْ سبق، بل تتحمل مسؤولية اختيار كل عضو من الأعضاء، وهي واثقة من قدراتهم؛ هي فقط تريد منهم ألا يشاغبوا.
وبما أننا داخل دائرة المقاصد وما وراء الكلمات فلا بد أن نكمل ما ورد في تصريح سعادة الوكيل فيما يخص ضعف الأداء الذي يستخدم قلة الموارد المالية «شماعة» لتغطية العجز القائم. ثم يقرر أن «الإعانات المالية السنوية المخصصة لهذه المؤسسات الثقافية والإعلامية فيها الخير الكثير إن هي أديرت بطريقة سليمة». ما المقصود بهذه الجملة المحكمة منطقياً: كل من يشتكي من قلة الموارد، فإنما يعلق عجزه وضعفه على شماعة؟
تقرير سعادة الوكيل يصطدم مع تصريحات عديدة اعترض من خلالها رؤساء أندية أدبية على ضعف الميزانيات المخصصة لها، فهذا قول الدكتور البازعي حين ترك رئاسة نادي الرياض، متألماً: «كيف يعطى ناد أدبي ثقافي في عاصمة المملكة أو في إحدى مدنها الكبرى مليون ريال فقط ليدبر أمر أنشطته كلها ومكافآت العاملين فيه لعام كامل، في حين لا يكاد ذلك المليون يكفي تكاليف بعض الرحلات أو الاحتفالات التي تقام هنا أو هناك؟ إنه وضعنا (الثقافي) بكل أسف، الوضع الذي سيبدو مؤلماً حين نقارنه بما يحدث في دولة شقيقة مثل مصر إذ تخصص الدولة نحو ألف مليون جنيه (نحو 700 مليون ريال) للنشاط الثقافي، بحسب ما ذكر بعض مسؤولي الثقافة هناك». (الحياة, 05 يناير 2010).
ماذا سنفعل بتصريحات الدكتور سهيل قاضي رئيس نادي مكة حين يعبر عن استيائه من ضعف الإمكانيات المادية قائلاً: «أنا وغيري من الزملاء ننفق من جيوبنا الخاصة على النادي، لكن لا يمكننا الاستمرار في ذلك، وكل شيء في النهاية له حدود». (عكاظ، 19 صفر، 1431)
كما أننا نعلم أيضاً أن أي أنشطة ذات تكلفة عالية، مثل الملتقيات الدورية والجوائز التي تستقطب المثقفين من داخل المملكة وخارجها، لا بد أن تلجأ إلى الدعم الخارجي وتبرعات القطاع الخاص، وأنه في حالة انسحاب الممول فتلك الأنشطة مهددة بالتوقف مثلما نص المانشيت: «400 ألف تهدِّد استمرار جائزة أدبي حائل للرواية» (الوطن، 10 جمادى الأولى 1431). هذا إضافة إلى أن معظم الأندية مبانيها غير لائقة، ومكتباتها تثير الشفقة، ومطبوعاتها تقدم مكافآت هزيلة.
ما الذي قصده التقرير المالي الذي تفضل به سعادة الوكيل؟ هل هناك تفسير يبتعد بنا عن دائرة سوء التدبير، والبذخ والصرف غير المبرر؟ ربما أراد فقط أن يهون على السادة الأعضاء ما يقاسونه من قلة الدعم، وينصحهم بالتخلي عن الأمل في رفع سقف ذلك الدعم مستقبلاً.
ها نحن إزاء موقف آخر يشكّل معضلة؛ فالوزارة تطالب الأعضاء برفع كفاءة العمل؛ وذلك بتقديم أنشطة نوعية ذات فاعلية، وتفتح باب التنافس بين الأندية لتنظيم فعاليات مبتكرة، وللتقدم بالحراك الثقافي إلى أعلى المستويات، لكنها في الوقت نفسه تتراجع عن الدعم، بل وتجزم بأن الميزانية ينقصها الترشيد، وتعيب عليهم سوء التدبير. مرة أخرى يجد السادة الأعضاء أنفسهم في ورطة، فإن دارت أنشطتهم في حدود المليون لما حققوا نجاحاً لافتاً ولخرجت تلك الأنشطة شحيحة وباهتة، ولو أنهم أعطوا الأنشطة حقها لنفد المليون ولشارفت الأندية على الإفلاس!!
هذا وضع لا يحسد عليه أحد، وضع لا يعطي خيارات ولا يسمح بالتحرك. هو الانتظار القلق فقط لوقوع الفردة الأخرى.
جدة
lamiabaeshen@gmail.com