حسناً أن اصطفى شاعرنا الخنساء أمُّ الشهداء عنوانا لديوانه.. عِشق البطولة تاج شعر.. وقمة مشاعر.. هكذا جاء الخيار عنوان وفاء لرمز فداء احتفظ بها التاريخ كإحدى بطلاته في زمن تكسرت فيه النصال على النصال في ساحة البطولة والنضال.. لتكن البداية من البداية، من قسمات الحزن والجراح التي هدت كيانه، أو كادت..
في غيابي يستفسر الصحب عني
والمرايا تحكي طريف أغنياتي
نسجتها غلائلا من عيوب
ظللتها باحتمالات السراب
ويصل بنا شاعرنا إلى خاطرة الشكوى
الليالي تبيح شحو الحزانى
وهي تخفي رغم الأنين انتحابي
والجراح الجراح هدت كياني
واحتضان الهموم أدمى صوابي
صوت اغتراب اقض مضجعه.. وراح يتساءل في حب لا يخلو من عتب..
هل سألتم عني إذا غبت عنكم
أو عرفتم تبرير معنى العتاب
أين علامات الاستفهام يا شاعرنا في كلا الشطرين؟! شاعرنا ينشد الرفق.. أو تركه لعزلته واغترابه:
فارفقوا بي إذا أردتم وإلا
فاتركوني في عزلني واغترابي
لا أحد يترك أحداً في حاله.. وبالذات إذا ما كانت هناك قصة حب يُخشى عليها انفراط العقد.. الرفق بك أن تذكر لا أن تنسى.
ومن حزن إلى حزن.. خفقات قلبه مليئة بالوجد الباكي.. والوجه الشاكي أمام فاجعة الموت:
عز المصاب فما استطعت رثاء
وأبى إبائي أندب الأحياء
رغم المنون فلم تزل يا والدي
حيا تنهنه قلبي المستاء
الخطب أفدح من دموع محاجر
تنعيك أو تبكي لك الندباء
وبيقين إيماني يؤمن بقضاء الله وقدره.
من يتعظ بالموت يدرك أن من
وهب الحياة يردها ما شاء
شاعرنا أمام مشهد متلاحق من الشجن.. طفلة في عمر الزهور تفرق.. وهي تلاحق ظلها المرسوم على وجه الماء..
عثرت تسابق ظلها فرحا فتختنق الحروف..
أين الهنوف؟ ما بين غفلة أصفيائك..
والتفاتة والديكِ تغادرين؟!
في شبر ماء تسبحين.. وتمزحين
في نصف متر تغرقين؟!
وانطفأت برحيلها شمعة حب.. بل شموس حب كانت تملأ ما حولها دفئاً.. وضياء.. وردة حياة ما إن تفتحت حتى عاجلها الأجل على غير انتظار.. ومن فينا صغار أو كبار لا تنطفئ له شموع على صغر.. وشموس على كبر؟ الحياة نهاية..
نترك أحزانه المتلاحقة أمام مشهد فنجان قهوة في خيمة برية: ذكرته بأبي صلاح: وما بعد غياب أبي صلاح:
فنجان القهوة يبحث عنك
وبخار سحائبها مختلط بدخان النار الشتوية
وخيال السيد في الدرعية يبحث عنك
يا أروع نخلة في الجلسة.. من منا ينسى؟!
النكهة ليست في القهوة.. النكهة في جلستك الحلوة
قصيدة سمر لا تخلو من طرافة، وخفة دم.. وذكريات لراحل عزَّ نسيانه كان هو الطيف اللطيف لسمره الشتوي.
عذبتنا برحيلك ذاكرة لا تنسى
من منا يمكن أن ينسى؟!
الموت.. الوداع.. أحزان الفراق.. الدموع.. قاسم مشترك أعظم لمعظم قصائده أكاد أسميه شاعر الأحزان. في أن أفرغ من فاجعة حتى ألج إلى بوابة توصد إلى قبر جديد.. ووداع جديد.
بين جديد مراثية.. وبين استرجاء لشريط ماضية تبرز صورة امرأة أفسح لها التاريخ صوره.. بصبرها.. بشموخها.. بتضحياتها.. وفدائيتها كتبت لها الحياة أنشودة خلود تستعصي على النسيان.. إنها الخنساء أمُّ الشهداء..
تماضر الحبيبة، عيناك شمعتا بكاء
وأعين الذين غادروا وحبهم مستوطن في هاجسي أضواء
حبيبتي في هاجسي للحزن ألف شمعة تضاء
من شهقة الطفولة المنداح ظلها الكئيب
لآخر الدوائر، الزوابع الخرساء
كل هذا مدخل للعزاء فيمن افتقد.. وكأنما يذكرهم بعنوان كبير في تاريخ أمته يحمل كل مفردات الفداء والتضحية..
سيدتي الخنساء
ذاكرتي مشحونة بألف ألف غرسة انتماء
تمتد بي مساحة الحزن الشفيف
من مبدأ الطين، الخريف
من مقتل الهمام جعفر وحمزة
من سهم أول المجاهدين
وحمأة البكاء حين شج وجه سيدي محمد
وعطرت دماؤه الغبراء
يستعرض شريط الماضي.. الرسالة، والرسول، الجهاد، والتضحيات، والفتوحات، والدم الزكي المراق، وأخيراً:
سيدتي الخنساء، بكيت إذ بكيتِ صخرة الفداء
وعُدت بعد «أحمد» فرحانة
تودعين آخر الأنبياء
سيدتي الخنساء، هذي صورة
فياضة لموسم الفداء..
ومن تاريخ الأمس.. وما قبل الأمس نعيش مع شاعرنا المتجلي عبدالله الحميد في لوحته الشعرية «ومضة لأوراد البراءة»
أوتار القلب تناجيك، وتمنحك السلوى
وتفرد حين سكبت الشاي، وقدمت الحلوى
ببساطة أهل الريف منحت الضيف حفاوته القصوى
وغمرتيه بأروع نشوة شوق لا يعدلها غير الحب الأقوى
ساكبة الشاي، وصاحبة الحلوى ترسم صورة مليئة بالوله.. والحنان.. مع شيء من أشجان في قصة أي لقاء ينتهي بنشيد.. وزغردة عيد.. شاعرنا أدرى بتفاصيله.
أشعر وقد فرجت من دائرة الحزن والمأساة بشيء من راحة البال.. لعلي أتنفس نسمة أمل أنستني إياه سحابة ألم متتابعة تمطر الكثير من الدموع إلى درجة التشبع.. شاعرنا لا ذنب له أن يكون وفيا لمن افتقد.. ولكن حسبنا أيضا أن نتنفس معه باقة ورد تذكرنا بالحياة وقد ذكرنا الموت مراراً، ومراراً.. ويبدو أن ذاكرة الموت هي الأقوى لأنها النصيب الذي لابد منه.. شئنا أم أبينا..الإرهاب.. وشطاياه يفضي إلى الكارثة.. وإزهاق أرواح بريئة لا ذنب لها..
عقل أشح، ومنطق مرتاب
وجهالة عنوانها الإرهاب
وهوى تشرب بالذوذ تحولا
حِقد العناد بنبضه صخاب
وتخاذلت تلك الوجوه إذا انتفى
من قاتليها معتد كذاب
فتكت بها، وبهم عقولة فجة
وتحرك آيات استغراب
هذه لوحة كما رسمها شاعرنا
لوحة ثانية.
وجدان.. إعلان الحرب على الحب استهجان
وبراءة من.. تغتال الآن؟!
وبأيدي من.. يا للهول..! يُلوث تاريخ الإنسان؟
بأيادي شرذمة.. فلماذا الآن؟
شطح الفكر.. وغامته في عينيه العينان؟!
وتتسع دائرة التساؤلات لديه.. والحسرة تملأ قلبه..
وديار الأمن هنا ليست دار الخذلان
فلماذا تهتك حرمتها؟ تقتل نبض حياة الأبرار بها؟
ولماذا تفتك بالإخوة؟ والصحبة؟ والجيران؟
أي شريعة غاب هذي؟ أية طوفان؟
ولمن تغرس هذي القنبلة الموقوتة؟
لمن توقد هذي النيران؟ نيران الفتنة!
ومن عائلة الإرهاب.. إلى عائلة الإرهاب.. يخاطب وجدان الضحية:
نامي بين الشهداء قريرة عين
لا تعرف غير الإحسان
بأي ذنب قُتلت وجدان؟
ويخاطب أبويها:
يا همسة أم أرّقها عنف الفقد في أبشع فقدان
وتلعثم صوت النطق بمهجتها.. واحتار بيان
وأب روّعه الرعب.. جمدت في عينيه دموع الأحزان
رغم المأساة وبوح الفاجعة تعود ملامح الربيع.. وسنابل الأمل صامدة في وجه قنابل الألم.. لأن صوت الحياة متجذر في أعمق أعماق الإنسان الواثق بقدره.. ويقينه وإرادة وجوده..
وجدان.. ستظل السنبلة بوجه الربيع عبيرا وديا
وشموخاً لا يغمره النسيان، يا وجدان
حسنا أعطى لنا شاعرنا الحميد جرعة نبل بها الظمأ ونحن نختار وإياه صحراء عالم مسكون بمشاهد الموتى.. وقبور الراحلين.. وحسنا مرة ثانية وثالثة ورابعة أن منحنا عيدا مباركا تختتم به دمعة رحلة غطتها سحابة من الحزن والخوف.. وإذا بشمس النهار تخترق سجف الغيوم الرمادية مؤذنة بيوم جديد.. يوم عيد:
العيد أنت مبارك بحضور
واليوم طيفك مفعم بعبير
ذكراك في كل النفوس سجية
فياضة بالحب والتقدير
والبوح في عينيك همس نابض
بهواجس الإيلاف والتوقير
حين اجتمعنا في رحابك ألفة
تشملتنا بالبشر والتيسير
جُبلت نفوس الأكرمين على الندى
واعتاد إبراهيم شوق حضوري
شيم تجلى في المواسم كلها
في العيد، أو في القفر، أو في الدور
عيده الخاص استخلصنا منه عيدا لنا نمصمص شفاهنا من لذة طعامه بعد جفاف.. كاد يأخذنا من القفر إلى الفقر.. ومن الفقر إلى القبر لولا كرم شاعرنا الغالي الذي آثر أن تكون نهاية رحلتنا وإياه على طعم طعمة عيد نحن في أمسِّ الحاجة إليها.. إلى هنا.. وتنتهي رحلة الاستعراض لما لم تقله الخنساء وقاله شاعرنا الغالي: عبدالله الحميد..
الرياض ص. ب 231185الرمز 11321 فاكس 2053338