يكاد الرجل الروسي «إيفان» أن يشكل بحضوره وكلامه الشخصية الثانية، في رواية «عصفور من الشرق» للحكيم. وهو يؤدي دوراً مسانداً لدور بطلها محسن، في وصف أوروبا ومقارنتها بالشرق، من زاوية المديح للشرق والقدح في الغرب. وقد صنع خطاب الرواية إيفان لتأدية الغرض نفسه الذي تؤديه شخصية محسن وهو الدلالة على الغرب من خلال موقف فكري وتقويمي، لكن بعيون أخرى هذه المرة، ومن انتماء غير شرقي، على النقيض من حال محسن، وذلك لمضاعفة صدقية خطاب الرواية ووجهة نظرها وتوسيعها بشخصية أخرى. ولهذا تنعقد بين محسن وإيفان علاقات مشابهة متعددة.
وأولها شحوبه وحدّة نظراته، في وصف الراوي لرؤية محسن له أول ما رآه في المطعم، والوحدة وشعور النفي، حين سمع محسن صاحب المطعم، يحدثه متعاطفاً مع مرضه وشحوبه: «إنك تعيش وحدك» فيجيبه إيفان: «إني دائماً وحدي في الحياة» وهذه الصفات تحيلنا على العصفور في عنوان الرواية الذي استعاره خطابها اسماً لمحسن في فرنسا. وقد استرعت الوحدة تحديداً انتباه محسن، لأنه «كان يتصور أنه، هو وحده، الذي يحيا دائماً وحده في الحياة». وتأتي بعد ذلك صفة القراءة والثقافة، فقد رآه يخرج من جيبه كتاباً، ويأخذ في التهام صفحاته، والكتاب هو (رأس المال) لماركس، الذي يؤشر على الهوى الاشتراكي وأسئلة العدالة الاجتماعية عند محسن، ويجمعهما في الإطار ذاته، ولهذا تنعقد بينهما الصداقة التي تتعمق بعد أن زاره في غرفته البائسة ورأى الكتب مكدسة في كل مكان.
وتزداد الروابط بينهما من خلال صفات أخرى لإيفان، تتجلى في أفكاره التي يبسطها أمام أسئلة محسن وتعليقاته. فحديثه عن الدين ينم عن رؤية روحانية تجاه العالم، وتجاه معنى السعادة البشرية، ولهذا يقول: «ما أسعد أولئك المؤمنين الذين يرون الموت مرحلة إلى حياة أخرى مجيدة جميلة». وهي روحانية تفيض بمعان صوفية من جهة هجومه النقدي على العلاقة بين رجال الدين والسلطان والمال، وامتداحه للفقر وحياة البسطاء وقناعتهم، واستشهاده في هذا الصدد بدعاء النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): «اللهم توفني فقيراً، ولا توفني غنياً... واحشرني في زمرة المساكين»!.
وتتصل تلك الصفات بصفة الإنسانية لديه، إذ يصفه محسن بأنه «يريد أن يخلق إيماناً للمحبة». كما تتصل بالمثالية الفكرية والخيالية فيه التي كانت صفة لمحسن عند أندريه وموضوعاً لسخريته منه. إن إيفان يقول: «الفاصل الوحيد بين الإنسان والحيوان هو الخيال» ويهتف: «آه... الخيال هو ليل الحياة الجميل! هو حصننا وملاذنا من قسوة النهار الطويل... إن عالم الواقع لا يكفي وحده لحياة البشر!». هكذا تجمع تلك الصفات بين محسن وإيفان، ولكنها تطلق لسان إيفان بما أحجم عنه محسن، من النقد العنيف للغرب، وذلك بالاستناد على ضديته لتلك الصفات وإنتاجها بالضرورة رؤية تقويمية انتقاصية لما هو مختلف عنها وعلى نقيضها. ويطاول هذا النقد معظم جوانب الحياة الغربية، ومنظومتها القيمية، فهو نقد للعلم الحديث وللصناعة والاقتصاد والسياسة والدين والثقافة والأخلاق.
إن العلم الحديث الذي أنتجه الغرب، ليس «غير لُعَب من صفيح وزجاج ومعدن، قَدَّمت للناس بعض الراحة في أمور معاشهم، ولكنها أخرت البشرية، وسلبتها طبيعتها الحقيقية، وشاعريتها وصفاء روحها!». و»كل شيء في هذه المدنية الحاضرة يتآمر على قتل الفضائل الإنسانية العليا، وصفاتها الآدمية، السامية». والصناعة «شطرت المجتمع الأوروبي إلى شطرين: فئة قليلة كل همها جمع المال وفئة كبيرة كل همها أن تقدم هذا المال في مقابل لقمة!». و»لما كان الأوروبيون قد اتخذوا عادة القراءة طول الوقت-وتلك رذيلة، كعادة تدخين السجاير...- فإن أوروبا اليوم تتغذى بأدب من الطبقة العاشرة». و»هذه الفتاة الشقراء التي تسمى (أوروبا) جميلة رشيقة ذكية، لكنها خفيفة أنانية، لا يعنيها إلا نفسها، واستعباد غيرها!».
ولم يكن نقد إيفان هذا موجهاً إلى أوروبا من زاوية الضدية للرأسمالية والليبرالية، فبلده وهو طليعة المعسكر الشيوعي -حين ذاك!- والماركسية إجمالاً، موضوع تشنيعه العنيف وسخريته الشديدة، وكان ذلك ضمن أوليات الدهشة المحفوفة بالمفاجأة في تعرف محسن عليه. لقد أنكر محسن عليه علاقته غير الودودة ببلده، مقرراً: «إن روسيا الآن هي جنة الفقراء!». فأجابه إيفان: «أتظن؟... إن جنة الفقراء لن تكون على هذه الأرض!» «أنت أيضاً ممن يعتقدون في هذه الخرافة!». ولا تختلف الماركسية، في بيان إيفان لمحسن، عن جملة الصفات التي رآها في الغرب، فهي مادية عنيفة، لأن ماركس «نسي السماء، فأمسك الناس بعضهم برقاب بعض، ووقعت المجزرة بين الطبقات تهافتاً على الأرض». والماركسية هنا هي الفاشية هناك، إيمانا «بزعيم من البشر، ونظام لا يؤدي إلى التوازن الاجتماعي... وإنما يؤدي إلى مطامع الاستعمار والوثوب على الضعيف من الشعوب».
وفي مقابل هذا الهجاء العنيف للغرب، يمدح إيفان الشرق، وهو في مديحه للشرق، مثلما في هجائه للغرب، يقول ما لم يقله محسن، على رغم ما يجمعهما من تشابه وتلاق. وعلة ذلك كامنة في إستراتيجية السرد التي تصطنعها الرواية، فالآخر المؤيد للذات قيمة برهان وشهادة، والذات ضعيفة الموثوقية حين تتحدث بخير عما يتصل بها، ولهذا قيل قديماً: «والحق ما شهدت به الأعداء» كما قيل «الاعتراف سيد الأدلة» والعكس بالعكس وهو ضعف الموثوقية في صفة الآخر حين يقدح في الذات. وبالطبع فإن مديح إيفان للشرق هو أضداد ذمه ونقائضه الموجهة إلى الغرب؛ فالشرق خيالي وروحاني وإنساني وأخلاقي وجميل وعادل وسعيد ومسالم... إلخ. وهي صفات في خطاب الرواية تجعل للشرق جهة عليا مكانياً كما هي الجنة، في مقابل سُفْلية الغرب وتحدُّره وسقوطه المشابه لمكان الجحيم!
«آه يا صديقي، إن الغرب إنما عاش أجمل حياته في ذلك الحلم السماوي، وذلك العالم العلوي الذي صنعه الشرق، وإن ضياع الغرب لم يبدأ إلا يوم أفاق من هذا الحلم، ونزل إلى عالم واقعه، يدب في هضابه المتحجرة...» «آه!... السماء... الجنة... الجحيم!... جرِّد عالمنا الأرضي من هذه الكلمات الثلاث التي بنيت في الشرق، تنهار في الحال أروع أعمالنا الفنية!» «إن الغرب يستكشف الأرض، والشرق يستكشف السماء» «إن الرجل الشرقي ما زال يحس آدميته بالنسبة للشيء الذي يصنعه، ويخلقه بيديه، آنية من الفخار كان، أو حذاء، أو رداء... أو قطعة أرض يزرعها ويجني ثمارها! إنه لم ينقلب بعد -لحسن حظه- منشاراً آدمياً، أو مخرطة بشرية!»
وبمنطق إستراتيجية الشاهد الموثوق التي وظف خطاب الرواية إيفان لأدائها، يقابل محسن شهادته تجاه الشرق تحديداً، الذي ينتمي إليه، بالنقض لها. فهو يُطْرِق أمام إيفان ويقول دون أن ينطق: «إن الفتاة الشقراء يوم حقنت فخذها بالموروفين السام لم تترك أبويها سالمين، لقد قضي الأمر، ولم يعد هنالك نبع صاف؛ فإن الزهد قد ذهب كذلك من الشرق! وإن رجال الدين هناك يعرف بعضهم اليوم كذلك اقتناء السيارات، وقبض المرتبات، وتورد الوجنات من النعم والمتع، وإن ثياب الشرق الجميلة النبيلة هي اليوم خليط عجيب من الثياب الأوربية... وإن التعليم العام للقراءة والكتابة، وحق التصويت والبرلمان، وكل هذه الأفكار الأوربية قد أصبحت في الشرق اليوم ثابتة... وإنه لمن السهل أن تقنع شرقياً اليوم بأن دينه فاسد، ولكن ليس من السهل أن تقنعه بأن الصناعة الكبرى هي عجلة إبليس التي يقود بها الإنسانية إلى الدمار...إلخ».
ولا يخرج عن منطق إستراتيجية الشاهد الموثوق دور العائلة التي سكن لديها محسن، فآلامهم وشكواهم وسلوكهم موظفة في سبيل الإشهاد، على القاعدة نفسها التي تصدِّق الانتقاد الذاتي أو الاعتراف، بالقدر نفسه الذي تصدِّق شهادة الآخر والمغاير والضد في الثناء على الذات والاعتراف بفضلها.
الرياض