(لا تقيموا علاقة ودّ مع الأشياء، فإنّنا راحلون)، ذلك ما يقوله اللاجئون والمطاردون والمنفيّون، وكلّ الذين لا يملكون مكاناً ثابتاً يسكنون إليه، ويوطّنون أنفسهم على العيش فيه، فيسمّى وطناً. تلك العبارة أنقلها على لسان الصديق القاص والمناضل الفلسطيني (رشاد أبو شاور)، الذي يوصي بها أهله كلّما انتقلوا معه إلى منفى جديد، وقد عرّج في حديثه حينما التقينا مؤخّراً في مهرجان (أبو العلاء المعري)، لنتكلّم على مفهوم الهويّة والانتماء في القصّة في بلاد الشام، على واحدة من مشكلات الكاتب المتنقّل، وهي أنّه يشتري الكتاب ذاته عدّة مرّات، مرّة في كلّ منفى أو مرتحل، وتلك أتقاسمها معه.
لعلّ المشكلة التي تواجه الكاتب الفلسطينيّ في الشتات هي الكتابة عن فلسطين التي لم يرها، ووصف تفاصيل المكان الفلسطينيّ الذي تخيّله، أو رآه مصوّراً، أو منقولاً بالسماع. إنّ الذين خبروا الكتابة يعرفون جيّداً مدى صعوبة رسم مكان لا يعرفونه، لاسيّما في الرواية، سواء أكان المكان في عصرهم أم في عصور أخرى، فمهما قرؤوا عنه، أو حدّثهم المحدّثون بحديثه، أو أسعفهم الخيال برسمه، فهم بحاجة إلى أن يعرفوا شكل الفضاء ولونه، فللفضاء شكل ولون، يُشعَر بهما، وهم بحاجة إلى أن يتنشّقوا الهواء، فيدركوا ثقله أو خفّته، رطوبته أو جفافه، حرارته أو برودته، وهم بحاجة ليسمعوا شدو أطياره وطنين ذبابه...
لا شكّ في أنّ إنتاج المكان إبداعيّاً قد يجعله أجمل بكثير من حقيقته، وأهمّ، وذلك على طريقة الرومانسيين المغرقين، ولطالما قيل إنّ المكان لا يؤخذ وحده، فهو مرتبط بالزمان، والأحداث والشخصيّات. لكنّ العلاقة مع المكان، من وجهة نظري، تصير في مرحلة من المراحل واعية، فيتمكّن المرء من تذوّق المكان جماليّاً بمعزل عن متعلّقاته من زمان وشخصيّات وأحداث، وذلك يحدث بعد خبرة اجتماعيّة طويلة، تنمو معها الفرديّة.
يولّد المكان شعريّة خاصّة به، قد تأتي من الحبّ بقدر ما قد تأتي من المقت، وكم حملنا على كاهلنا عبارات ثقافيّة صنعتنا بعد أن صنعناها، من مثل (المكان من المكين)، و (هوى كلّ نفس حيث كان حبيبها)، وهو شطر استعمله الوزير ابن الفرات، ليشير إلى أنّ العادة والألفة تمنعان المقيم من نقد المكان جماليّاً، يقول:
وكنّا نرى بغداد أطيب منزلاً
فلمّا تباعدنا استبانت عيوبها
وصحّ لنا قول الذي كان قائلاً
هوى كلّ نفس حيث كان حبيبها
ولطالما أحببنا مكاناً وكرهنا أهله، أو العكس، ولم يثنني، شخصيّاً، كلّ أسى تعرّضت له، عن تعلّقي بمكان ما ومعاودة زيارته.
كثيراً ما تعرّض الذين تجبرهم ظروفهم على التنقّل، إلى تهم التنكّر للمكان والأوطان، ونعتوا برقّة حبل الودّ، وبقسوة القلب، لكنّ في الأمر تجنياً وظلماً، فالنفس تتمرّن على أن تدافع عن صلابتها، أمام التصدّعات التي يسببها، الرحيل، والغربة، وفقد الألفة، فهي إن نجت في المرّة الأولى، تخفّ وطأة الهجر عليها في المرّات اللاّحقة، لذا يمكن أن نقول إنّ المكان الأوّل مثل الحبّ الأوّل إذا ما تخلّيت عنه أو تخلّى، فسيسهل تخلّيك عن الثاني فالثالث...
وسواء أسمّينا ذلك نسياناً أم تكيّفاً مع الحوادث، فهي نعمة ربّانيّة نشكُر عليها، وإلاّ لذهبت أنفسنا، في حبّ المكان وساكنيه.
حلب