يقرر المنطق الأرسطي أن القضايا تنقسم من حيث مادتها إلى ثلاثة أنواع رئيسية: أحدها، القضايا اليقينية ويقصدون بها الأوليات والحسيات والمجربات و(المتواترات). الثاني، القضاياالظنية أي المشهورات والمقبولات والمظنونات. الثالث، القضاياالمشبهة باليقينية والمشبهة بالظنية كالوهميات ومن هنا فالمنهج المنطقي يتعاطى إستراتيجية الرفض للقضايا المتواترة فيمنع الاحتجاج بها وأنه لاينهض بها برهان على المخالف. ابن تيمية من جهته ينحو منحى معارضا حيث مضى متتبعا مايراه عوارا في هذا المنزع المعتقدي مجليا بواعث بتّ وشيجة محدداته بالموضوعية قاصدا صوب البرهنة على يقينية المتواترات خلافا للغطارفة المتمنطقة، كما أنه يقرر أن إيراد المشهورات ضمن الظنيات ليس له مايسوغه إذ هو إسقاط لمفهوم على ما لاتحتمل بنيته ذلك، وإقحام لمعنى ترفضه طبيعة السياق كما أنه من تجليات النفي الذي يرنّق جماليات الحقيقة ويكدر صفاءها إدراج المجربات والمتواترات ضمن»القضايا التي لايقوم بها البرهان على المنازع» (الرد على المنطقيين ص391) يقصدون بذلك أنه لايسوغ الاحتجاج بالمتواترات فما تواترعند شخص مّا فغيره ليس معنيا به. وهذا القالب من التعاطي مرفوض تيمياً لأن المجربات والمتواترات «قد يحصل بها اختصاص واشتراك كما أن الحسيات كذلك قد يحصل فيها اختصاص واشتراك وأيضا فالإشتراك قد يكون في عين المعلوم المدرَك وقد يكون(أي الاشتراك) في نوعه» (المصدرالسابق ص213) ومعنى قوله: إن المتواترات يحصل بها اختصاص واشتراك أي مثل اشتراك البشر في العلم بوجود مدينة كالقاهرة مثلا وأكثرهم لم يشاهدها وإنما أدركها عن سبيل التواتر، ومثل ذلك المجربات فثمة قضايا كلية ولكن العلم بها تجريبي فمثلا كافة البشر قد استقر في أخلادهم أن الموت نتيجة محققة وحتمية لبتر العنق وأن الارتواء يقود إليه العبّ من الماء وهكذا. ويقصد ابن تيمية بقوله: الاشتراك في عين المعلوم. مثل اشتراك الناس في رؤية المرئي المدرَك كالشمس والقمر أو نهر أو جبل وغيرها، فهذا هوعين المعلوم المدرك.
ويقصد ب»نوعه» أي جنس الشيء مثل الاشتراك في معرفة جنس الشبع والري والجوع والعطش ونحوها ولذلك فهو يقول: «إن المعين الذي ذاقه هذا الشخص ليس هو المعين الذي ذاقه هذا ، إذ كل إنسان يذوق في باطنه ولكن يشترك الناس في معرفة جنس ذلك» (المرجع السابق ص213) إذن فابن تيمية من خلال نصوصه الآنفة ينقض ماغزله المتمنطقة ومايتشبثون به رافضين مبارحته إلى ماهو أعلى منه موضوعية، ابن تيمية يروم عبر تلك النصوص تقرير أن ماينسحب على الحسيات من وجوه الاشتراك والاختصاص ينسحب على المتواترات إذ كما أن الحسيات يندرج في إطارها ماهو كلي عام وماهو جزئي خاص فالمتواترات على ذات المنوال.
إذن المناطقة ينزعون إلى تقرير أن القضايا المعلومة بالتواتر و التجربة يجب حصرها في من وقف عليها لاتتجاوزه إلى غيره وأما ماعداها من القضايا فيَسوغ الاحتجاج بها على المنازع وابن تيمية بدوره فيّل هذا المنزع الفكروي المفرط في جنب الحقيقة وأكد أن هذا «تفريق باطل» (المرجع السابق ص203).
قد يثار سؤال هنا: ومايضير ابن تيمية من هذا التفريق؟ وهل ثمة ضرر يُخشى أن يصارإليه؟ وما سر سَوْرة الحماس التي تنتاب ابن تيمية فتحدوه لمناقشة مثل تلك القضايا، والجنوح صوب التحوير في زاوية معاينتها، وتبني الذود عن يقينية المتواترات، وإصراره على أنها يحتج بها على المنازع ؟هل ثمة مايستوجب الإرقال/الإسراع إلى التفنيد؟ هنا أدع الجواب لابن تيمية حيث يقرر أن هذا التفريق يؤدي بالمناطقة «إلى إنكار المنقول عن الأنبياء بالتواتر من المعجزات (تحت ذريعة عدم تواترها عندهم) وغيرها(كالنص النبوي الذي رفضوه تحت ذات الحجة مع أنه المصدرالثاني للتشريع) حيث يقولون: هذه غيرمعلومة لنا لله وهذا من أصول الإلحاد والكفر».
إذن فإنكارالمتواتر هوضرب من زحزحة الرؤية والتقويض الثقافي إذ يؤول في منتهاه إلى إنكار تواتر الدين الذي يتم دكدكة بنيته انطلاقا من هذا الأصل . ونحن لو تأملنا في الخطاب القرآني لألفيناه يُنزل المتواتر منزلة المُشاهَد في القطعية والثبوت لاحظ مثلاً عندما يتحدث عن وقائع الأمم السالفة كواقعة (أصحاب الفيل) فبطبيعة الحال النبي صلى الله عليه وسلم لم يشاهد تفاصيل تلك الواقعة وإنما بلغته على سبيل التواتر ومع ذلك جاء الاستفهام القرآني عنها بصيغة (ألم تر) فأنزلها منزلة المشاهَد.
ثم بعد ذلك يعرج ابن تيمية على الرد على قولهم بإنكارالقضايا المتواترة فيقول: «عدم العلم (وهويعزى لعاملين: إما لعدم البحث عن الباعث الموجب للظفر به، أولعدم وجود الباعث أصلا في صناعتهم) ليس علما بالعدم وعدم الوجدان لايستلزم عدم الوجود فهم إذ لم يعلموا ذلك لم يكن هذا علما منهم بعدم ذلك ولابعدم علم غيرهم به» (نفس المرجع ص217) يقصد أنه ليس في جعبتهم ثمة دليل عقلي على إنكارالمتواتر وإنما قصارى مابحوزتهم أن صناعتهم وأن آلية المنقول المنطقي لاتنطوي على مايشي بوجوده وهذا بحد ذاته تحكم صِرف مجافٍ لمقتضيات المنهجية، لماذا؟ يجيب ابن تيمية لأنه «يفيد عدم العلم لا العلم بالعدم وقد اعترف بهذا حذاق الأطباء والفلاسفة كأبقراط وغيره» (نفس المرجع ص114)
بريدة