قد لا نجد مشكلة في استعمال الكلمات أو العبارات المسكوكة لأنا نعرف وظائفها التي ترد فيها، ولكنّ لهذه الكلمات معانيها الأصلية التي قد لا يعلمها المستعمل اللغة، ومنها الفعل (سنح) الوارد في عنوان المداخلة، إذ قد يجيبك من تسأله عن معناه بأن المعنى (تهيأ) أو (جاء) أو ما شابه ذلك من الأفعال، وهو قول صحيح من حيث هو شرح للمعنى الوظيفي المستعمل؛ ولكنه مختلف عن أصل المعنى اللغوي للفعل الذي نجده في الاستعمالات القديمة للفعل قبل نقله إلى استعماله المجازي الذي شاع واستمر، وتوارى ذلك المعنى الحقيقي القديم المتعلق بترجمة تصورات العرب وأوهامهم ومعتقداتهم في (العيافة)، ذلك أنه إن مرّ ظبي أو طير من الشمال إلى اليمين تفاءلوا به فعبروا عن مروره بالفعل (سنح) وعكسه إن مرّ من اليمين إلى الشمال تشاءموا وعبروا عن مروره بالفعل (برَح)، جاء في معجم (الصحاح في اللغة) للجوهري (السَنيحُ والسانِحُ: ما ولاّك مَيامِنَه من ظَبْي أو طائرٍ أو غيرها). تقول: سَنَحَ لي الظَبْيُ يَسْنَحُ سُنوحاً، إذا مَرَّ من مَياسِرِكَ إلى ميامِنِك. والعرب تَتَيَمَّنُ بالسانِحِ وتتشاءم بالبارح. وفي المثل مَن لي بالسانِحِ بَعد البارِح. وسنَحَ وسانَحَ بمعنىً. قال الأعشى:
جَرَتْ لَهُما طَيْرُ السِناحِ بِأَشْأَمِ
ونجد عند ابن سيده في (المحكم والمحيط الأعظم - 3: 201) تعددًا في معنى الفعل لا يغير من ارتباطه باليمين، قال: (وقيل السانح ما ولاك ميامنه والبارح ما ولاك مياسره، وقيل السانح الذي يجيء عن يمينك فتلي مياسره مياسرك)، وكما اختلف المعنى ذكر اختلاف العرب في التيمن، قال: (والعرب تختلف في عيافة ذلك فمنهم من يتيمن بالسانح ويتشاءم بالبارح ومنهم من يخالف بذلك).
هذا هو أصل الاستعمال، ثم انتقل إلى المجاز ليعبر به عن الأفكار والآراء التي تمر في الذهن سريعة كمرور الظبي أو الطير؛ ولأنها أفكار جيدة عبر عنها بما يدل على التيمن والتفاؤل، وإن لم يكن مقصودًا بل المقصود هذا المرور السريع غير المتوقع أو المنتظر، وأشارت المعاجم إلى شيء من هذا الاستعمال كما جاء في (الصحاح) قال: (وسَنَح لي رأيٌ في كذا، أي عَرَض. وسَنَحَتْ بكذا، أي عَرَّضَتْ ولَحَنَت). قال الشاعر:
وحاجةٍ دون أخرى قد سنَحتُ بها
جعلتُها للتي أَخْفَيْتُ عُنْوانا)
وقال ابن سيده في الموضع الذي أوردته أعلاه (وسنح لي رأي وشعر يسنح تيسر). و(الفرصة) من الفعل (فرص) أي قطع فكل مقتطع فرصة ولذا أطلقت (الفرصة) على النوبة، جاء في (تاج العروس) (هي النَّوْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ القَوْم يَتَنَاوَبُونَها على الماءِ في أَظْمائِهِم)، واستعملت عند الناس لما قد يعرض عروضًا ولذلك قالوا: سنحت الفرصة وتهيأت الفرصة وانتهز الفرصة.
الرياض