(كانت الشمس تجمع سيلانها الأصفر نحو الغروب، وكان الغروب يجرجر مع نهاياته الحوافر والأظلاف وشقشقات الدجاج في الساحات، وكانت الآذان الفطنة تقتنص من غير حدس مزاليج الأبواب على المواشي) - من مجموعة أحوال الديار-.
في طفولته المبكرة انتبه عبدالعزيز إلى عملية تشكيل اللون - لا في محترفه الخاص - ولكن في ذلك الامتزاج الخصب الكامن في تعدد الألوان وتغيرها بين المكان وتبدلات الفصول الأربعة على قمم القرى الجبلية التي تحظى بكرمٍ خاص لا مثيل له من توالي تغير الألوان وانتقالها من النقيض إلى النقيض.
وفي مناخ القرى الجبيلة يلبس كلُّ حيٍّ لونه وكل جماد سمته المتبدِّل حتى تكاد أن تقرأ أسماء الفصول على وجوه الرجال، وألوانها في عيون النساء، وإيقاعها في خطوات الطفولة والتفاتات الصبا الباكر.
وهناك حيث يغمس المرء أصابعه في الغيوم، ويكون قريباً من تحليق الطير في الأعالى يمكن له أن يلمس الشمس وهي تبتسم للمنحدرات كل صباح، وأن يدفعها بيده وهي تنطفئ خلف القمم التي - للتو - هبط من أعاليها وهو يتتبع بهدوء أواخر التعب خلف بياض قطعانه أو سواد ماشيته.
لم يكن عبدالعزيز يحيا هذه التفاصيل كغيره من الآلاف الذين عايشوا حياة القرى - وغادروها كعابري سبيل - ولكنه كان يؤثث بها مخيال ذاكرة الالتقاط الحميم لتفاصيل الأشياء - القابلة للاستعادة فيما بعد - ويتفاعل آنياً مع بهجة تعدد الألوان وإيقاعاتها المرتبطة بحركة الإنسان في المكان، حيث تكتب الفصول حكاياتها على الحجر والغيوم ومنابت الشجر والأنهار الصغيرة والوجوه والأقدام، فتكون مطريّة لدنة في الربيع والصيف، وتخضرّ البيوت والقطعان وتدرجات الأودية وقلوب البشر ومواسم أفراحهم، وتغدو ترابية جافة منكسرة لها طعم الغبار وجهامة الغابات العارية من أوراقها أيام القحط وانحباس المطر.
وقد تفتحت بصيرته اللونية على عالم ولود حفزه مبكراً على التعبير عن حساسية علاقته بمحيطه «بالرسم»، فنمت ملكة القدرات الأنيقة لخلق ممكنات التجاور والامتزاج بين الأشياء الصغيرة والمرئية والمتخيلة في عالمه الشخصي والبيتي والعملي والثقافي.
ويمكن لنا القول أيضاًَ بأن ذلك «الوضوح» الضارب في الحسم بين الألوان التي تفتحت طفولته عليه في القرية قد أمده بتكوين صارم يجيد التمييز بين الألوان والمواقف الحياتية أيضاً، حيث كان واضحاً مع نفسه ومع الآخرين بدون مواربة، معتداً برأيه وما أختطه لذاته من رؤى وقناعات، حتى وإن بدت للأقربين بعيدة عن سياق المنطق أو غير ملائمة للظرف المرحلي.
وفي تجربته مع الرسم اتسمت حركة الفرشاة على صفحة اللوحة بتمايز الكتل اللونية وحرارة الألوان وكثافة الخطوط مع الاشتغال بمهارة لإقامة الانسجام بين الأشياء المتجاورة، أما فيما يخص التوازن بين عالمي الحضور والغياب فقد كان يميل إلى جانب إبراز الأول على الثاني متأثراً بحركة تبدلات اللون الحادة في الطبيعة وانعكاس ذلك على سلوك الناس وأمزجتهم.
وفي لوحاته الزيتية، التي يقارب فيها عالم المرأة، يتم التركيز على زوايا التقاط تضعها في قمة الهرم الإنساني والأخلاقي، فيما يتم إغفال ما تنطوي عليه من مثيرات عاطفية وحسية. ويتوازى هذا المنحى مع ما يدونه في سردياته عن المرأة، حيث يحتفي بإبراز جوانبها الإنسانية والأخلاقية المثالية حتى لتبدو أحياناً ككائن فوق بشري.
وهنا نرى عبدالعزيز وكأنما - أو هو كذلك - يكره الحديث عن نفسه فيذهب إلى علانية الكتابة عن الآخرين في سردياته تاركاً التعبير عن حميمية العلاقة الوجدانية والحسية بالمرأة تقبع في خلوة الفنان الخاصة، ليبوح لها بترنيماته الشعرية ويجسدها في لوحاته المرسومة بالقلم، فيشدنا إلى خطوطها الدقيقة وزواياها المقوسة وغموضها الممتزج بمباهج الجسد وتقاطعاته مع محيطه الذاتي ليرقى الكشف عن دلالاته إلى ما يشبه تحقق الرغبات المكبوتة ذاتها.
ولذا فإن اللوحة المرسومة بالقلم - وقصائده المدونة في ترنيمات - قد انشغلت بإبراز حضور الغائب وما سكت الكاتب عنه في علاقته بالعالم الحسي والوجداني للمرأة، لتقوم اللوحة والقصيدة بعملية إعادة التوازن إلى منظور تلك العلاقة الطبيعية والحلمية لنقرأ فيها فتنة الروح العاشقة ورغبات الجسد المكبوتة حيال الأنثى، والذي جرى تفتيته وتغييبه عن عمد قسري، في النص السردي، وفي اللوحة الزيتية، استجابة للمواضعات الاجتماعية.
ولأن الرسام يعيد بناء كل شيء حوله بقدرٍ من المماثلة أولاً، وبدرجات من الإنزياح ثانياً، فإنه يختزن الكثير من هذين الفعلين حتى وهو في أقصى حالات الابتكار والخلق والمغايرة، ولعله بذلك يكون أكثر التصاقاً بالعالم المادي - الذي يشتغل عليه ويعيد تشكيله ويستنطق لغته الأخرى - من بعض المبدعين الذين يكون وسيط تعاطيهم مع الواقع هو «التجريد/ اللغة» الذي ليس أكثر من معادل رمزي للوجود العياني.
ولقد تبدت لنا - مجموعة أصدقائه في جريدة اليوم حين استقر معنا للعمل في أوائل 75م - سطوة اللون على أعماله فيما ينقشه من لوحات فنية ولوحات «الخط العربي» وقصصه القصيرة، حتى أن أحد الأصدقاء النقاد - محمد الأنور عشماوي - نصحه بالتركيز على الرسم، لكن عبدالعزيز اختار وبعناد طريقه المتعدد المهموم باللوحة والحرف والكتابة والعزف على العود، جاعلاً من تلك الملاحظات وسواها دافعاً للإيغال في الاستفادة من ملكته اللونية وإيقاعاتها وتطويعها بنجاحٍ لافت في كتابة النص السردي.
ويذكر في هذا السياق صديق طفولته ودراسة المرحلة المبكرة، محمد الدميني في مقالة بعنوان «بادئ ذي بدء»:
«ربما لا يعرف الكثيرون أن العمل التشكيلي في حياة عبدالعزيز مشري، كان ينافس العمل الكتابي لديه، وخاصة في الشطر المبكر من حياته الأدبية، ولم يكن التشكيل لديه نشاطاً فائضاً، بل كان أساسياً، فقد كان اسمه ثابتاً في كل المعارض التي نظمت في المنطقة الشرقية، وكان منسجماً في عمله هذا، فلاحق الكتب والنظريات والتيارات ورموز هذا الفن العظيم سنين عديدة وجرب أشكالاً ومدارس وصيغاً، إلا انه لم يستطع السير طويلاً في المجرى الشاق لنهر الفن، فالفن التشكيلي يتطلب عدّة صحية متماسكة، قوامها النظر واليد والقامة الصلبة، وهذه صفات لم ينعم بها المشري - للأسف- كثيراً ، وإلا لكان حاله مع التشكيل حالاً آخر، ولربما أختطفه من الكتابة والأدب، وحمله إلى أرض أخرى.» (كتاب «ابن السروي وذاكرة القرى» - ص330).
وقد أنبثت فاعلية حساسيته اللونية في طريقة تأثيث المكان وزوايا التقاط الصورة، كما كانت عيناه المفتوحة على الأشياء والناقدة لها - تسخر مما لا يبدو منسجماً في ما تراه من لوحات حيث يسخر في قصته (رقم الملف بونابرت) من إحداها بقوله: ((لم يكن يشغلني واحد من المناظر الطبيعية البليدة المعلقة على الجوانب.. لقد بدت جامدة ومغلفة جميعاً بلون ضبابي باهت.. عديم الحياة.. فقيرة الإلفات، بينما كانت أطرها من ذلك النوع الكلاسيكي الفخم والمزين بخطوط ذهبية بيضاء مزخرفة)).
وبكثير من اليقين أستطيع القول بأن هذا الانشغال بالفرشاة وسن القلم لإنجاز اللوحة هو الذي حرض الرسام نفسه على استبدال الكلمات بالألوان والمضي في تفتيق الكلام وحركة «الصواتة» فيه، ونحت المفردة الخاصة التي تستند إلى التقاليد المكتسبة من استخدام الفرشاة لتشكيل العالم باللون، كما أمدته هذه التجربة، من زاوية أخرى، بالشجاعة لاستئناس عالم اللغة وتطويع الكلمات لبناء «النص» المكتوب بعفوية وسلاسة مثلما يشكل تفاصيل لوحاته، حتى غدت الكتابة عادته الأليفة ولوحته اليومية، وفي ذلك بعض ما يفسر لنا غزارة إنتاجه الإبداعي وكتاباته الصحفية معاً.
الدمام