الثقافية - تحقيق - سعيد الدحية الزهراني:
لن نأتي على البعد الديني في حله وحرامه.. ولن نبحث في مستويات الذائقة له عاليه ووضيعه.. سنكتفي بالغوص في معاني الحس عبر مناطق الجمال في منظومته كفطرة تستجيب لها الأرواح والقلوب..
إنه النغم والموسيقى.. المساحة التي لا يتلعثم الإحساس فيها.. عندما يلتقي بها النبض الحي في ذواتنا.. أو هو سفر الخيالات إن لم يكن هروبها.. إلى حيث الإنسان كما يجب أن يكون؛ نقياً أبيضاً وطفلاً لم يعرف بعد وعثاء الحياة وكآبة القائم والقادم وربما المجهول في كل شيء.. إنه النغم والموسيقى.. تلك الحالة التي تعيد ترتيب ما تبعثر في وجداننا من فوضى وجع ما نعيش..
ولعلها شهية السؤال الجواب.. عندما ننتهي إلى تلك المساحة: لماذا نعود أطفالاً أبرياء كلما لامس النغم والموسيقى أرواحنا؟!
ما هي الموسيقى:
قيل إن الموسيقى فن روحي.. خلقه الله لحاجة الإنسانية إلى ما يهذب روحها ووجدانها.. والإنسان حين أشرقت طفولته الفكرية على الكون وجد الموسيقى تملأ أ رجاء الطبيعة.. فسمع تغريد الطيور، وحفيف الأشجار، وخرير المياه..
وقيل إنها لغة الجمال والعواطف.. إذ إن الطرب الذي نحسه في لحن موسيقي.. ما هو إلا نتيجة مشوقة لنا.. تنسجم فيه النغمات في إطار شيق بديع.. فالموسيقى ترتبط مع اللغات الأبجدية بحروف وقواعد.. فالموسيقار يستعمل الدرجات الموسيقية السبع للتعبير عن أنغامه والحانة.. بينما يستعمل الأديب الحروف والألفاظ في تكوين المفردات والجمل البلاغية..
وقيل إنها علم رياضي.. يشيد على قواعد الأنغام..وهي أيضا هندسة صوتية فذة.. تتألف منها نغمات معبرة عما تشعر به النفس من مظاهر الحياة.. وعلى هذا الاعتبار.. فالموسيقى فن وعلم ولغة.. وهي غذاء الروح.. نستخدمها للتعبير عن الأحاسيس والمشاعر الجميلة والحزينة بداخلنا..
نشأة الموسيقى:
تشير بعض المعتقدات الصينية القديمة.. إلى أن الموسيقى نشأت قبل وجود الإنسان على الأرض.. فيما يرى آخرون أن أصل الموسيقى يعود إلى نشأة الإنسان على الأرض عندما حاول الإنسان البدائي أن يستخدم أقدم آلة موسيقية عرفها العالم وهي»حنجرة الإنسان»..
فالموسيقى كغريزة.. تعبر عن شعور الإنسان الباطني والظاهري.. عن إيمانه ورجائه.. عن أفراحه وسعادته.. وعن أوجاعه وأحزانه..
والموسيقى في جوهرها تشتمل على عنصرين أساسيين أو روحين متمازجتين.. أولهما (الصوت) بما فيه من أنغام وطبقات مختلفة، والثاني الزمن أي (الميزان) بما فيه من تجزئة وتراكيب واتزان..
كما أن الموسيقى ولدت مع ولادة أول إنسان وسترافقه في جميع مراحل حياته من المهد إلى اللحد.. فالحنجرة كانت ولا شك.. أول وأقدم آلة أخرجت الصوت المقصود.. والأكف كانت أول آلة أخرجت أجزاء الزمن ونقرات الميزان وأنظمته.. ومن هاتين الآلتين الإنسانيتين الطبيعيتين تمثلت الموسيقى بعنصريها الجوهريين.. وفيهما استطاع الإنسان أن يخترع بعد ذلك الآلات الموسيقية المختلفة ويطورها..
ولاتزال أسباب نشوء الموسيقى ومصدرها أحجية لعلماء (البيلوجيا).. على العكس من بقية الغرائز الفطرية الأخرى كالرغبة في الطعام والشراب والجنس..
ولا يوجد أي تفسير منطقي لأسباب ظهور الحاجة إلى الموسيقى بيلوجياً.. وأسباب بقاء المشاعر الموسيقية على مدى عصور.. في ذات الوقت لا أحد قادر على نفي قوة تأثير الموسيقى على الإنسان..!!
للتواصل مع المحرر: Aldihaya2004@hotmail.com
من هنا يأتي هذا التحقيق.. ليستنطق رؤى فلسفية لعدد من قراء المعنى في ومض المعرفة لفضاء الموسيقى والنغيم.. محللين خطاب هذا الفن -الضرورة.. في صميم الذات الإنسانية المجردة..
حيث يشاركنا كل من الأساتذة- محمد العباس وأحمد الواصل وزياد السالم وسالمة الموشي وفهد رده الحارثي وعبدالله ثابت..
(مزاجي الموسيقي وحاجاتي الروحية)
يقول الأستاذ محمد العباس.. لم يكتف نيتشه بالكتابة لصديقه باتر قاست ليخبره بأن الحياة بدون الموسيقى خطيئة أو منفى، بل اعتبرها -من الوجهة الفلسفية- جوهر القيمة الفنية، وإحدى المحرضات الكبرى على اشتهاء الحياة، لدرجة أنه صنّفها في أعلى منزلة من منازل التعبير الإنساني، وذلك بتأكيده الصريح على أنها تبدأ عندما ينتهي الكلام. وليس وحده بالتأكيد من اعتنق خطاب النغم وتحمس له، حيث وضعها بتهوفن في مرتبة أعلى من كل حكمة وفلسفة. أما ابن سينا فكان يداوي بها، وله مصنفات جمالية معروفة حولها. وكانت له طقوس سماع يومية تتناسب مع إيقاع دورة الأفلاك، كما أن شكسبير حذر من الكائن الذي لا يستمع للموسيقى باعتباره نفساً مريضة.
كل تلك الشواهد الفكرية وغيرها تفيد بأن السؤال عن الموسيقى هو بمثابة دعوة للخوض في فلسفة الجمال، وهذا مدخل واسع وملذوذ للتأويل الجمالي للعالم بالتأكيد، إلا أنه يشكل حالة استفزازية للتعبير عن مزاجي الشخصي ازاء قيمة القيم في الحقل الفني، التي يعادل ازدهارها نهوض الحضارات والعكس، أو هنا أفترض مكمن السؤال، فهي إذ تحتل تلك المنزلة المتقدمة بين الفنون، تلامس في المقام الأول حياتي كإنسان وتغمر كل مظاهر وجودي، بمعنى أنها تمارس مفعولها السحري في جوهر وجودي، على اعتبار مؤكد في داخلي بأن الفن والحياة شيء واحد.
عظمة الموسيقى -بتصوري- تكمن في كونها تحمل حاجة مزاجية خاصة لكل واحد منا، بما هي ترجمان الأشواق والحسرات الفردية والجمعية، وبما هي المعبّر عن أطوار الفرح والحزن الذاتي. أو هكذا أتعاطاها كحركة وجدانية مضادة لأي ملمح من ملامح انحطاط روحي، كما تشكل بالنسبة لي طاقة حسّية ضرورية أحايث بها الوجود، حيث تحفظ لذاتي الصغيرة ديمومة الإحساس، وطزاجة الحضور. ولا أبالغ إن أوليتها ذلك الاعتبار في حراكي اليومي واعتمدتها كأقوى الأحاسيس المنشّطة لذاتي، بل أن اللذة التي استشعرها من خلال ما ينسكب منها في نسيجي العصبي، هي التي تزيدني قوة.
الاكتفاء بالتعاطي مع الموسيقى من خلال الأذن فقط، أظنه رياضة روحية ساذجة وقاصرة، أو هي أدني درجات التعاطي مع تلك المضخة الجمالية، وعليه أعتبر أن (السماع) وحده لا يكفي، إذ لا بد من رفع مستوى المعرفة بها كتاريخ وأدوات واتجاهات وأسماء وقوالب موسيقية، وإن أمكن تعلّم العزف على آلة، لأستكمل نشوتي المتأتية من الحالة الشعورية مع متعة الحالة الثقافية المتعالية، التي تشكل امتداداً ذوقياً وفكرياً للذات العارفة، فالموسيقى بقدر ما تعبر عن إحساس الإنسان ومزاجه، تعكس بنفس القدر تاريخه ووعيه بالكون.
لغة التعبير الموسيقى تتجاوب بشكل مباشر مع أحاسيسي، ومن خلال تلك البلاغة النغمية أجس الزمن. وكل حركة من حركاتي الإيقاعية اليومية، التي أعبر عنها بجسدي عن الإنشراح أو التالّم أو الإنفعال أو حتى الإنكسار، متأتية في الأساس مما أختزنه من النغم. أي من الإحساس الجواني العميق، الذي قد يتقاطع مع حسابات (المترونوم) الذي يعتمده الموسيقيون في ضبط موازين معزوفاتهم من الوجهة الزمنية، ولذلك أجد أن التعامل بهذا الفعل الحسّي المنشط للروح والجسد، لا يمكن حصره في المتعاليات الموسيقية، المتمثلة في الموسيقى الغربية، بما هي هي جوهر الثقافة الغربية، المعبّرة عن الحضارة الفاوستية، كما يتم الترويج لها من خلال المركزية الغربية في السيمفونيات والسوناتات والكونشرتات، بل يمكن أن توجد في كل القوالب الموسيقية الشعبية، وفي كل ما انتجته الشعوب من رقصات ومقطوعات مستمدة من إحساسها الأصيل بالوجود.
لا أقر -كمتذوق للموسيقى- بذلك الفاصل بين (دموم وتكوك) الصوت الخليجي المستمد نغمياً وإيقاعياً من الموجة البحرية مع ضربات بتهوفن في سمفونيته الخامسة. وبالتأكيد، أستمزج جلال النغم في كانتاتا كارل أورف (كارمينا بورانا) بنفس الحس الذي أتلذذ فيه بصوته النهام الشجي سالم العلان. وبالمقابل أجد أن الأجساد المتمايلة بارتجال غريزي بمحاذاة سيف البحر على آهات السامري والفجري لا تقل بلاغة وإثارة وحرفية عن أجساد بالية البولشوي المدربة في (لاسكالا) إيطالية، كما خبرت كل تلك التجارب واقعياً بشغف حباً وطراداً لكل فضاء مسكون بالألحان.
الموسيقى هي الخيط الخفي الرشيق بين المادة والروح، وبالتالي فهي لا تتراسل مع روحي وحسب، بل تسري في جسدي فتولد فيه النشوة والقوة. ولأنها كذلك أستشعر قدرتها على رفع منسوب ذكائي الحسّي، بما تستثيره في داخلي من الذكريات المفرحة والمحزنة، وبما تضخه من جرعات عاطفية، هي الكفيلة بتوليد الطاقة الروحية، استمتاعاً وتألماً، لدرجة أن بلاغة التعبير الموسيقي في بعض المقطوعات تدفعني إلى الشعور بالعظمة، وتقوي ارادتي، بذات القدر الذي ترققني وتهذب أحاسيسي، عندما تسلمني لنفسي أمام غرائزي، وعندما تفتح تلك الطاقة الصوتية حميمية أناى الداخلية.
لا أميل إلى المفاضلة بين آلة وأخرى، فلكل آلة سطوتها على روحي ومزاجي فالنقريات والوتريات والنفخيات بالنسبة لي هي أدوات تعبير نفسية بقدر ما هي أدوات تعبير تقنية، ومن خلال انفعالي بمعزوفة ما من المعزوفات أقبض على نفسي متلبساً بمشاعري، فانسياقي وراء ايقاع طبل يكشف لي عن مدى حاجة ذاتي المقموعة للرقص. وانسجامي مع سحبة كمان طويلة ومرسلة يفصح عن رغبتي للتأمل والانقذاف بشكل عمودي في داخلي. وانئساري لنقرة بيانو مباغتة يفضح هشاشة روحي أو رقة إحساسي في لحظة ما من اللحظات، ولذلك أحتفظ في مكتبتي الموسيقية بوصفة نغمية واسعة تجمع بين الشرقي والغربي، وتتجاوب مع حاجاتي الروحية.
(الصوت والإيقاع وانضباط الكواكب)
أما الأستاذ-عبدالله ثابت فيقول:
عندما يخلق الله أحدنا في بطن أمه، فإنه بعد أن يبدأ في التشكل قليلاً، يشرع شيءٌ ما في الداخل بالحركة. شيءٌ صغيرٌ جداً اسمه القلب، وحركته تلك يصير اسمها النبض، وهذا النبض في زمن متسق ودقيق يصدر صوتاً خفيّاً ثم يسكت جزءاً من الثانية ويرجع ليصدر ذات الصوت، وهكذا سيعمل دون توقف، بنفس الصوت والزمن، وبهذا الإيقاع الذي أوله يعني بداية الحياة، واختلاله يعني اختلالها، وتوقفه يعني توقفها. بهذه الموسيقى جاء العالم!.
اقتراب أحدنا من صوت نبضات قلبه هو اقترابه من خلقه الأول في جوف أمه، حيث لا كذب ولا خداع، بريئاً من الخطايا.. حيث كان الإنسان في أقرب نقطةٍ ممكنة من سرّ الخلق، نائماً على الحد الفاصل بين العدم الذي جاء منه، والحياة التي هو ماضٍ إليها، ولا شيء يملكه في مواجهة تلك اللحظة غير صوت قلبه، غير نبضاته الصغيرة الأولى. الصوت والإيقاع الذي يضبط هذا الكوكب بأسره.. والذين يحاربون الأصوات والإيقاع يحاولون عبثاً أن يقفوا في وجه مشيئة الله وطريقته في خلق الأرض والشمس والقمر والمطر والريح والشجر والنهار والليل والرقص والكلمات.. الخ وكل ما هو موسيقى، وهذا شيء مضحك وشديد التلوث!.
(الموسيقى. والعلاقة الجدلية بين الزمن والحركة والسكون)
في حين يرى الأستاذ زياد السالم أن الموسيقى منطقة تتشكل فيها الأضداد، ضمن علاقة جدلية قائمة على التجاذب المزدوج بين عناصر فيزيائية تشمل الحركة والزمن والسكون. هذه الأبعاد ذات الأصل الطبيعي، تتكاثف في الحالة الموسيقية. لتعبر عن دالة زمنية ما، بحسب طبيعة النسق الموسيقي نفسه. والموسيقى تبني حدودا مركبة بين الإنسان وبين الحيوانات الأخرى، إذ إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي أبدع موسيقاه في قواعد ومنظومات رياضية. لذا أرى أن الموسيقى أثر سحري لروح الكائن.
يسعى من خلالها لاقتناص الغسق ومعانقة المطلق. وكل موسيقى مسكونة بوضعية من وضعيات الكائن، وفقا لرؤاه وتصوراته ومفاهيمه عن الوجود والصيرورة والعدم. بعض مساراتها تعبر عن الزمن الدائري القائم على المحو، وثمة موسيقى النقطة، حيث تبدأ الأشياء بالتحلل، وفي مقام متعلق تتفجر الموسيقى العبثية خارج المعيار التفاضلي كي تفسخ الفهم الأولي للأشياء بحثا واستقصاء دونما غاية محددة سوى تدمير القيمة الرقمية لإنسان العصر. وللتدليل على الميل الداخلي والمتجذر في الإنسان، ومسعاه للتمرد على قيم الحداثة، ونزوعه العميق للخروج على زمن الآلة ومنطق الأرقام، بحثا عن الرابطة المبهمة التي تربطه بالطبيعة وتوحشها الفطري.
نلاحظ موسيقى القبائل المتوحشة ذات الأصول الإفريقية تغزو الفضاء الغربي في لحظة حضارية تتقاطع فيها محاور العلم والسحر بشكل فائق.
(الموسيقى عوالم أبدية..)
وفي هذا السياق يقول الأستاذ أحمد الواصل إن الإنسان تحكمه طبيعته. يحقق رغبات البقاء ليعيش ويقدم للحياة ما استطاع. مفطور على حب البقاء والهناء. المتعة والأمان ينشدهما. ومن المتع الفنون، وهي مطلب طبيعي لا ثانوي أو عارض. فهناك فنون تعبر عم بداخله أو تعينه للتخاطب والإبلاغ، وهناك فنون يشترك مع الآخرين أو ربما وحده. في صناعتها أو تأسيسها.
ولكل فن من الفنون. امتداد من حواس الإنسان إذا عرفنا أن النغم والشعر والرسم، فهي الفنون الأولى الملتصقة بالإنسان، فالنغم امتداد للصوت وإحساسه وطاقته، والشعر امتداد للسان ونطقه، والرسم امتداد لليد وخياله.
امتزجت الفنون مع بعضها حتى كأنما توحدت أو كل واحد منها يستدعي الآخر. الشاعر في قلبه لاعب بالكلام والنغم، كذلك العراف والساحر.
في العالم القديم، أجدادنا الساميين، عرفوا سحر الكلمة والنغم في المعابد وطقوسها، والتعازيم وسجعها،والأدب وملاحمه.. صدق الناس الشاعر إذا غنى والكاهن إذا سجع.
وفي الغناء والسجع موسيقى، وفي الغناء ميزان إيقاع، وفي السجع رنين حروف.
الموسيقى عنصر رافق الإنسان. أصوات الطبيعة تستدعي الإحساس، كالرعد بالخوف، والشعور كالحفيف بالريح، والعواطف كالطير بالتغريد..
النفخ كان أول محاكاة لصوت الريح..
والضرب كان أول محاكاة لصوت آلة الكسر والقطع.. وجاء الوتر ليحاكي حنجرة البشر..
الموسيقى تكتب تاريخ البشر. تشير إلى اللحظة بعينها، وتسكنها الخلود.
وجاءت الأغنية لتعلن تلاحم الشعر والصوت والإيقاع. الكلمة في الشعر، والصوت في البشر والآلة، والإيقاع في التكرار والدوران.
الأغنية جمعت كل ما توصل إليه الإنسان من محاولة لمحاكاة نفسه والتعبير عنها، وإيجاد التأثير في إحساسه.
عندما حاكى رقصة الثعلب، فهو يمرح ويلعب. وعندما يحاكي خطوة الفرس فهو جذل فرح بنصره. وعندما يحاكي حركة البحر فهو يعزي النفس ويطهرها.
تاريخ من المحاكاة والتعبير والتأثير هو تاريخ الغناء والموسيقى والرقص. فنون التقت من حيث أنها تتناسب وتتناسل. تستقطبها اللحظات ذاتها التي تفرقها.
فنون تجتمع لتعلن حال من الاتحاد بين الروح والإحساس والجسد. كأن الإنسان يتحد بذاته في ذاته نفسها. كأنه المتعدد في نفس واحدة يتفرق ويجتمع.
بين الإنسان والموسيقى حياة وموت. عندما ترى في كل العصور من بدايتها حتى حضارتها. الموسيقى - دون كلمة وإيقاع- ترافق الإنسان من مولده حتى مماته. الأصوات في كل وقت حوله تتصاعد. الصراخ، والزغاريد، والنداءات، والآلات في نقرها وطرقها وضربها، وأصوات السماء والأرض، وأصوات الماكينات والأجهزة الكهربائية.
أصوات من الفضاء تتساقط، ومن البحر تتعالى، ومن الصحراء تتهادى..
ومن الشوارع تحتد، ومن البنايات تتصادى، ومن البيوت تتبدد..
في كل مكان صوت. من له أذن فليسمع. الإنسان له أذنان يسمع أكثر مما يتكلم تقول الحكمة.
يموت الإنسان والموسيقى تعيش.
(الموسيقى: ذاكرة الروح.. نبض المطلق)
أما الأستاذة سالمة الموشي.. فتقول:
يقول ابن عربي الكون كله سماع لمن ألقى السمع، ورفع عنه الغطاء. فعظمة الحس الوجودي هي في الإصغاء للإيقاع الإلهي وتلك العلاقة بين الإيقاع والنغم وبين الإنسان وحواسه.
كيف كان وكيف نمسك بخيوط البداية لهذه الكينونة المسماة (موسيقى) يصعب كثيرا الإمساك بنقطة البداية لأولى لإرهافه سمع مارسها الإنسان منذ بدء الخلق فهي تمتد لأبعد مما نعتقد فبدءا بصوت إيقاع نبض القلب وآهات النفس ونغم الروح وهي تخرج من الكيان الإنساني عبر آلة ما لتصبح وجودا آخر وسيظل إيقاع الموسيقى مستمرأ حتى أنين حزن الموت والفراق.
يحلو البدء هنا من قيثارة الموسيقى السومرية التي غنت لعشتار امتدادا إلى ناي جبران مرورا بكل الانتشاء الروحي الذي تتركه الموسيقى في الحس باعتباره ذاكرة الروح ونبض المطلق.
الإنسان ابتدع موسيقاه بعد أن أصغى لصوت حفيف الأشجار وتغريد الطيور وخرير الماء...فخلق أدوات ارتقاء روحية (الموسيقى) وحلق بها بعيدا فأعطت العالم مدركات حسية جديدة. إنها الموسيقى.. فما هي الموسيقى؟ ما الذي تفعله بنا؟ وكيف تسمو بالروح.
في فترة تاريخية لازالت قائمة حتى يومنا هذا ألهمت الموسيقى الكلاسيكية لباخ وبيتهوفن وفاغنر وموزارت مرحلة من أهم مراحل البشرية ولازالت تسري في ذاكرة الروح أينما توجه الإنسان بحثا عن طقس مترف بالنغم الذي ليس إلا تعبير عن ثنائية الوجود بين الفرد والحس الروحي. وسبق التوجه الموسيقي الكلاسيكي بوقت الفكر الصوفي في موسيقاه التي هي حالة صوفية ومنحة عظيمة تحدث عند المتأمل الصوفي غاية الجمال والحب الإلهي. فنحن نحس بالحب يملؤنا حين نسمع تموجات الموسيقى وهي تأخذنا إلى ذاكرة روح الوجود. ونعبر إلى موسيقى» اورفيوس» إذ تحكي الأسطورة انه لسحر موسيقاه تبعته الحيوانات والأشجار والصخور ولا تكتفي الميتولوجيا بتأريخ سحر الموسيقى وتأثيرها على ذاكرة وحياة البشرية بل تلهم الحس انجذابا فطريا تتوق له الروح وتطرب له النفس. وكما تحدث الموسيقى الصوفية نشوة عند الصوفي تحدث الموسيقى الشرقية مثل (شانكار الهندي) إرهافا محرضا على الوعي الأبعد من الحواس والمكان. إنها الموسيقى النغم الذي ليس إلا نبض للمطلق.
لن يتسع المقام لنحكي عن قصة ذاكرة الروح البشرية» الموسيقى» إنما لكل شيخ طريقة ولكل هاوٍ غوا وهواي يأخذني للكتابة عن الناي وقد عرفته بأنه» بكاء الروح» فانظر كيف تبكي الروح حين يخرج من الناي نغم يسمو بالوعي ويحرر الروح فهو اقرب للنشوة الصوفية التي تحمل الإنسان إلى سفر داخلي وإنصات يمس سماوات الكيان الإنساني. إنني منذ قطعت من منبت الغاب، والناس رجالاً ونساء يبكون لبكائي. إنني أنشد صدراً مزقه الفراق، حتى أشرح له ألم الاشتياق.
الناي نديم لكل من فرقه الدهر عن حبيب،» ذلك هو الناي هو صوت الحنين البشري إلى الخلاص وبكاء الروح في أقصى حالات الألم. إنه يبقى بعد أن يفنى الوجود حسب جبرانية جبران القائل:
أعطني الناي وغني
فالغنا سرُ الخلود
وأنين الناي يبقى
بعد أن يفنى الوجود
نستمع وللسمع ألف طريقة ممكنة، وكل سماع هو تأمل، وتعبير باطني وبرهة خلق لحياة تتلوها أداة ما تمسك بها يد بشرية وهو يطلق حنينه وأنين الألم البعيد في أعماق الروح والقلب وتتلقفه آذان مرهفة للحزانى والسعداء على حد سواء فاللناي بعدا حسيا حقيقيا.
صوت الناي وحده يمكنه أن يبوح لك بمكنونك ويعلمك بكاء الروح فها هو جلال الدين الرومي في أروع قصائده الإنسانية ينشد أبياتا يفكك أسرار روحانية الناي ويسبر غور وقعه في قلب من القي له سمعا وأرهف له حسا فيقول:
الناي صديق لكل من افترق عن أليفه، ولقد مزقت أنغامه الحجب عنا.
فمن رأى كالناي سماً وترياقاً؟، ومن رأى كالناي نجياً ومشتاقاً؟
بداخل النفس كل شيء هو موسيقى عندما ننظر بعين الحب. والحب هو أقرب إلى الفعل الموسيقى الحقيقي الذي أسماه أوسكار بي» نبض المطلق»
(ما الذي تحدثه الموسيقي والغناء فينا)
أما الأستاذ فهد ردة الحارثي .. فيقول:
كنت في السابعة من عمري عندما شاهدت أول مطرب في حياتي كان ذلك المطرب ضيفاً على جار لنا وقد أوقد الجار دعوة وجهها لكل الحي، كانت الجلسة المهيبة التي حضر فيها المطرب حاملاً عوده وجلس بوقار شديد ثم انطلق يجس نبض الحضور بمجس حجازي انطلق من صوت رخيم، ظل هذا المشهد عالقاً بذهني حتى دعانا جار آخر لحفل زفاف ابنه بعدها بسنوات وأحضر ثلاثة مطربين وفرقة من العازفين كان المشهد المثير فيهم لمطرب أسمر اللون، غنى للمرة الأولى فعمت الآهات المكان ثم غنى أخرى فتقاطر الناس يرقصون ببهجة نادرة ثم غنى ثالثة فسكن المكان تماما وساد صمت مفزع ثم رابعة لعب فيها بالعود كبهلوان فضحك الناس وانتشوا، ظلت حالات الحضور وتفاعلهم وما يتغير من أحوالهم تسكن ذاكراتي زمناً، ما الذي تحدثه الموسيقي والغناء فينا؟ كيف نتلون ونتطاير ونسكن ونفزع ونندهش ونثور ونحزن ونبتهج ونرقص كلما سمعنا وكيفما سمعنا.
لماذا عندما أذهب لعملي في الصباح أحرص على فيروز تحديداً؟
ولماذا تحيلني من حالة لأخرى؟ من يطرد نعاسي وتكاسلي ويجلب بهجة نفسي في الصباح غيرها.
عندما كنت في بداياتي المسرحية ولازالت كان هنالك مشكلة وضع المقطوعة الموسيقية المناسبة للحدث المفجرة له المكملة لجوانبه، وكنت أواجه مشكلة لازلنا نعاني منها في مسرحنا السعودي وهي عدم وجود المؤلف الموسيقي الذي يجسد لنا الحالة التي نريد مما دفعنا لسماع الآلاف المقطوعات الموسيقية العربية والعالمية لنبحث فيها عن حالات نريدها تحديدا، مع تطور الوضع وكثره السماع أصبحت الموسيقي تفجر داخلى فأكتب نصوصا كثيرة وأنا اسمع لها، قصاصات الأوراق تملأ فضاء المساحات التي أستمع فيها لي ولها.
اليوم وأنا في طريقي من جدة للطائف كنت أستمع لخبر مرض الموسيقار طارق عبدالحكيم ومرض جميل محمود ومحمد شفيق تذكرت ذلك الجيل الذي كان كلامه موسيقى ونبضه موسيقي وفعله موسيقى، تذكرت معركة كادت أن تحدث أثناء جلسة فنية كان النقاش فيها حول أن الناس في الحجاز كانوا كلهم يغنون ثار الفنان عبدالله محمد على الفنان يوسف محمد رحمهم الله لأنه قال ذلك وقال إن أهل الغناء كانوا هم أهل الحرف فلكل حرفة شكل غنائي تتميز به فالحداد يغني بطريقته وعامل البناء بطريقته وهكذا كان الجو مشبعا بنقاش كانت الموسيقى محور جداله وكاد الغناء يشعل معركة الأيدي وفي لحظة سكن كل شيء عندما غنى عبدالله محمد فطرب يوسف وصفق وغنى يوسف فطرب عبدالله ورقص أي فعل غير الغناء كان يمكن أن يحيل الأشياء عن مكانها بهذه الصورة.
تذكرت حديثي مع أحد مخترعي فن المجرور الطائفي عوض الله أبو زيد وكيف كان يشرح لي طريقة اختراع المجرور وأنهم تمكنوا من عمل ألحان خاصة به وحكى لي وحكى فتقاطر الليل على صوت دف مشتعل (أقلقني الطار مادري الطار ولا حس راعيه)
يمتلئ المكان بالحكي ويشتعل فحامل الهوى تعب يستخفه الطرب، ويصدح شاعر من مكانه ليقول: ما أنت حين تغني في مجالسهم إلا النسيم وكل القوم أغصان
فمن استخفه الطرب ومن حرك القوم وجعلهم مجرد أغصان تتمايل، من أبكاهم وأسعدهم، من حرك أفكارهم وفجر دواخلهم.
يبدأ فعل الغناء أو العزف فتتحرك الأفعال: يبكي - يفرح - يحزن - يتوجع يكتب - يرقص - يغضب - ينفجر - يسكن - ينام
من يحيل صمت المكان من ساكن لمتحرك غير فعل الغناء.