فاجع البدو أن يرقص السراب أمام أعينهم عابرين أو مقيمين على وجل، فتقسو الصحاري القفر على الخلائق والأمكنة، لتلوذ الروح بفألها حتى تحن الحياة على أهلها وتمن السماء عليهم بدرر القطر وهمي الهاطل الوسمي، ومنتهى الأحلام لدى أهل المفازة أن يروا البارق وقد أشع إيذاناً بحضور الغيث، ومن قبيل التجاذبات العنيفة بين النقيضين الغريمين (العطش والارتواء) تتحرك أدوات الكاتب عبدالرحمن العكيمي لتسجل عبر روايته (رقصة أم الغيث) هذا السانح السردي المهم في حياة أهل الرمل ووجدانهم المشبع بالأمل رغم تكالب الزمان وفواجعه عليهم، وعلى صحرائهم.
الرواية تنهل من معين حكاية المكان (ديار الهضب) التي تعيد ترتيب أولوية البقاء كلما أمعن القحط بالقسوة عليهم وأنشب الظمأ نابه الحاد في أرواحهم، لتكون الفاتحة في هذه الملحمة الرملية الشاقة على هذا النحو الفاجع.
(عزام) و(العنود) حكاية أخرى تقتحم عالم الرمل والقفر رغبة في إذكاء روح الحياة التي عجز الجميع عن تدبرها، لتأخذ حكاية الشاب والفتاة طابعها ومدلولها من واقع البيئة التي تبحث عن الحياة أولاً ومن ثم الذات، حتى تصوغ لنا هذه المشهدية آخر خيوط اللعبة في الرمل المعاند.
يعرض العكيمي في ثنايا سرده للأحداث العديد من الصور المثيرة والمعبرة على نحو القحط والعاصفة الحمراء وضياع الفتى (ساجر) ربما يتوقع فيها فواجع أكبر وأحزاناً أكثر حتى تنقشع الغمة في هذه البيئة القابلة للتحولات والتبدل.
تميل الرواية في مجملها إلى استبطان ظاهرة الحكاية المشبعة بالقص المنثال بمشاهد مؤثرة استدرجها العكيمي لبناء مفردة خطاب الحياة اللازم في هذه المتاهة الرملية المعاندة عندما يشير في الفصل الثالث من الرواية إلى أن (أم الغيث) أسطورة من أساطير الرمل لم تغب وإن أشار مجازاً إلى تغييبها من ثمانية عقود، ففي هذه الرؤية الخفية مزج جمالي للخطاب السردي عن حالة شائكة ومعبرة تسكن الوجدان وتستميل القارئ لكي يعايش الحدث في هذه السيرة الرملية السادرة في ألمها حينما يلامس الظمأ أفئدة الرعاة وأهل الخلاء المتعبين من حمل الوعود الكثيرة كالقرب الفارغة.
رواية (أم الغيث) للعكيمي فاصلة مهمة واستحضار جمالي للواقع الحياتي الذي عاشته البيئة الصحراوية حينما كانت الحياة تعتلج في صراعها الأزلي مع الموت الذي قد تكون الغلبة له في بعض الأحيان.
يكثف الكاتب دلالات نصه بملامسة التاريخ السحيق حينما تلامس منقولاته السردية حدود الأماكن القديمة جداً على نحو (مدائن صالح) أو الحجر أو أماكن أخرى يستشعر فيها معاني البقاء لهذه الحياة التي ما زالت تتواصل متيقناً أن الرواية هي في الأصل سيرة للمكان ومندوحة للزمان لكي تتحقق معادلة الوجود (الحياة والموت) عند هؤلاء الشخوص في رمل ما زال يبحث عن الحياة.
يعمل العكيمي في روايته على استجلاب النص التاريخي كما فعل في استدراج المكان ليصبح مكتظاً بالصور القوية والمشاهد المعبرة على نحو رقص النسوة مع دمية أم الخير بحثاً في الخيال عما يرد للروح بهجتها حينما عصف العطش الغادر والقحط المميت بأهل هذه الصحراء وأهلها المثقلين بالوعود والصبر.
تتساوق فصول رواية (أم الغيث) على هذا النهج الانثيالي حكاية وراء حكاية وقصة بأثر أخرى من أجل قطع الوقت ومد جسور الأمل بأن الغيث قريب، فقد برع في استقصار هذه الرؤية ليعكف على بناء خطابه السردي الموائم بين الحلم بالارتواء وواقع الظمأ والقحط.
ترصد الرواية العديد من القصص والأحداث في الجزء الشمالي الغربي من الجزيرة العربية ليقرب لنا العكيمي في استطراداتها حكاية الرمل والماء (بئر هداج) بمدينة تيما رغبة في إيجاد معادلة لم تنته بعد تفاصيل معاناتها أو معاندتها من أجل البقاء شامخة في التاريخ أو المخيلة المتوارثة جيلاً بعد آخر وهو ما يعدُّ توثيقاً مميزاً لهذه الحقبة الجديرة بالتدوين والتوثيق على نحو رواية (أم الغيث).
* * *
إشارة:
أم الغيث (رواية)
عبدالرحمن العكيمي
الدار العربية للعلوم (ناشرون) بيروت - 2010م
تقع الرواية في نحو (158 صفحة) من القطع المتوسط