45 صفحة من القطع الصغير
للذاكرة طاقة شم هائلة من خلالها تجري عملية فرز دقيق لما استوعبته داخل مخزونها.. للذاكرة أنف غير مرئي يغربل الأشياء ويعطي لها عناوينها ومسمياتها.. وهذا ما عناه شاعرنا ا لشملان وهو يسترجع مخزونه من واقع حصاده الحياتي حلوه.. ومره.. قريبه وبعيده..
ولا ألصق بذاكرة الإنسان من أن تلتقط أقربها إليها.. وأحبها إلى قلبها.. وهذا ما بدأه شاعرنا وهو ينشط ذاكرته كي يسترجع بها دمعها جانباً من خصوصية حياته التي لا ينفك عنها لأ،ها جزء غال من تكوينه البشري.
إنه ولده.. ثم أمه.. وطائره الأخضر الذي طار..
ألم أوردتي جناحين
وعيناي الرفيف
فترف لي حوائط الغربة
منديل غريق.. من يسميني..
ويعصب الناي العليل..
لا أحب.. ولا أقرب من فلذة كبده يبثه شكواه، ومواجع غربته..
أواه لو أشد أزمنتي
وأسرع البرق طريق
وأمد من هجير النفي أوتاري مراثي للحبيب..
ويفتح جرحه الدامي في تساؤلات لمن تسكن قلبه..
هل سلوت الحظو.. أم تعشبت فيك الثمار؟
فلماذا تنزعين عن كفيك هناء المواسم؟
وتوشمين بالحداد أحداق المآذن؟
ويذكرها أكثر.. وأكثر:
هي ذي تُسمىت السر. برعم الحياة
فتنهن منها ا لعقم
هي ذي تعطي كليمات لبحار طريد
فيلم حوله سواعد البحر ستار
هي ذي تضيء في زنزانتي نشيد
ويتذكرها.. ومن فينا لا يتذكر أغلى الناس عليه.. وأقربهم إليه:
علمتني كيف أجتاز المقابر. كيف أجتاز المخافر
كيف لا أعتاد صمت الخوف في ليل المهاجر.
ويعود من جديد إلى ولده:
يا ولدي علمتك الصمت على الشدائد
ومسحت صورك بالآيات..
بسملتُ.. وكبرتُ بأذنيك
فلا تخذلني عند مضيفي
بين أمه وبين ولده تبادل أدوار.. وحوار.. هو في زنزانة غربته.. ووالدته في عالمها الآخر.. وطفله الذي ما زال يحبو ويحيطه بحنان أبوة لا نملك تجاهه إلا الدعاء..
(رائحة في الذاكرة) غربة.. واستغراب.. وأسئلة دون جواب:
ما أغرب أن تمر على بيوتنا فترتدينا وحشته غامضة
ما أغرب أن نمر على البيوت ونشك أن موقداً بالأمس كان مشتعل.
والشفاه ترتشف جرعات الشاي على وقع كلمات السمر والأغاني.. أقول نجمة تذكره بمساء توسَّد وسادية خالية.. إلا من بقايا رائحة ذاكرته.
شاعرنا الشملان يأخذه معه في لحظة وداع تتقاطع في خطوطها وخيوطها الطفولة والسراب.. والثرثرات الغامضة.. وهدير الموج وقامات النخيل. أشياء وأشياء يصعب فرزها.. ولا حل طلاسمها.. هكذا ينزع الشاعر في لحظة احتقان النزوع إلى فوضى المشهد.. ويدع المتلقي من حوله حائراً بين تداخلات المصور.. وبين التسليم بأمرها لأنها خيار لا اختبار فيه.
حين يشدنا ضجيج الموج والنخيل
كامرأتين في خصام
تركض في الرمال والمؤبد
نجمع ما يشيط البحر للنخيل من غضب لذيذ
قواقع. صبان. أسماك صغيرة. أصواف جمعت أمرها وراحت تلعق سيقان النخيل وهي سافرة..
وتأتي همهمات النخيل العجائز
مستنجدة.. طالبة الخلاص من ذلك المالح المجنون
فيزداد هياج البحر
وتزداد ضجيج
(ضجيجاً) منصوب بالفتحة.. ضجيجاً..
وتلتقط أيادينا الصغيرة هدايا بحرنا العجيبة
البحر صاخب يقهقه.. العشاق من حوله يختلسون النظرات في صمت على موعد صخب بعد عام يعودون حاملين فراغهم!
الرمق ما زال حياًَ يرزق.. ما زال فيه بقية:
أتمرين الآن على الرمق الباقي؟
كأنني أبصرك آتية.
ولا ترتد جدائلك الغريقة في طيب عطورك
وهنا بدأت ملامح الصورة.. وبدأ الخطاب:
من أين أتاك الوجه المولوج بساحتنا؟
أخفيناه طويلاً في الأسمال. وفي عتم الخوف
استوحشنا كل نهار جاء بفجر كاذب
وينتهي الخطاب بهمس.. عله يعيد بعضاً مما في رائحة ذاكرته المشتاقة..
فتح الرؤيا لقنديل يواري حلمه:
متكئاً على شرفة المنتهى يزادع الصلصال بالأحداق
يرتجل اللغات كي تمر شهقة على صهوة الاحتضار
له كائنات المنافي تزف الشموس
ولا تنتهي من غناء الطقوس
له مرفأ في القلوب.. ومرساته ضيعتها البحار..
هكذا رسم لنا شاعرنا صورة رؤياه الشعرية الهائمة في ضبابية الأفق بشكل قلق.. القلب له مرفأه.. والموسى أخذه الموج معه.. حب بلا شط.. كمرسي بلا مرفأ.. قلب ضاع في زحمة التداخلات..!!
كم أنت رحيم يا شاعرنا الشملان وأنا أقرأ لك مقطوعتك.. كم أنت رائع يا صديقي.. للوهلة الأولى خرجت بنا من ضبابية الفهم إلى أفق مقروء السمات والقسمات.
أنت. والأيام. والصمت هنا
طائر يبحث عن عش الغناء
ما رأي العش. ولا ريش الفراخ
ورأى على الغصن سيل الأغنيات.
الطير.. والصوت. والإنصات:
هل رأيت أني واقفة قبل المغيب
أجمل القلب على كفي وفي رأسي لهيب
لعل شاعرنا يريد أن يقول (أحمل القلب) لا أجمل القلب.
وينتهي المشهد. والشهود. والمُشاهد على مشهد النخيل وهي تنتحب أمام مقصلة قاتلها!!
الغربة مرة ثانية أعادته إلى الذاكرة:
والآن سنبحث عن قاربك المدفون
وترمي في ذاكرة الخوف نداءك.
وستسأل:
عن نخلة ساحل ضاعت. وضاع الدحل.
وصرير الموج وأشياء.
لتشرب صمت الطرقات. وصوت الغربة..
لا أدري لماذا استغرق شاعرنا الضياع فضاء يسبح فيه دون مرسى.. ولا شط.. ولا حتى قارب يحمله.. كل شيء في رائحة ذاكرته تأخذنا إلى التحية دون أن ينتهي.. ألهذا البؤس واليأس أطلق عنان ذاكرته ينفض عنها غباراً لا يطيق عمله.. ولا تحمله..؟
لمن تستعيد المرايا تصاويرها
وترى إلى الربيع فضتها
لتمضي الوجوه بلا أقنعة
ويمضي وهو كسير كما جاء
يفتش عن ذاكرة ضائعة
ويستفزه السؤال:
لماذا المرايا تغادر فضتها وتعدد
وتستر عنه المياه الرؤى
فلا يهتدي للمساء ولا يهتدي للبكاء
أسئلة حائرة.. وجائرة.. المرايا يا شاعرنا هي وجهنا الآخر الذي نراه.. وحين لا يعجبنا وجهنا نعمد إلى كسر المرايا بدلا من إصلاح قبح وجهنا.. من حقها أن تغادر.. بدلا من أن تغدر وتكتم حقيقة الصورة المشوهة..
أخيراً.. وجدتها كما قال أرخميدس.. وجدت ملامح طيبة كنت أبحث عنها جاهداً من بين ثنايا رائحة ذاكرته..
أقبلكم بين العيون. أضمكم
وتطل أمنيتي بكم.. إني لكم
أحبائي البسطاء. في أفراحكم
في غبتكم في عزكم في يسركم في صمتكم
يا أنتم المتوهجون نقادة كالدمع
كالعرق الذي يسيل من جباهكم
يا من أراكم حيثما أسير في شوارع المدينة متوسدي أحلامكم
في كل بيت لي حبيب بينكم.
ويمضي في لوحته الوردية التي تختتم بها ديوان شاعرنا أحمد الشملان (رائحة في الذاكرة):
لنمضي معاً.. نغني معاً
نمسح جرحنا معاً..
لأن خبزنا أطفالنا
أشياءنا التي تسمى ذكريات
عانقتنا. أزهرت
في الفسحة الصغيرة التي نسميها الوطن
وحين يمضي بي الزمن يظل قلبي بينكم
مردداً أسماءكم. يا أنتم أحبة الوطن.
هنا ننتهي.. وإلى حين نلتقي مع شاعر جديد.. وديوان شعر جديد.
الرياض ص. ب 231185الرمز 11321 فاكس 2053338