على كثرة المقالات التي كتبتْ حول استقالة الدكتور عبد العزيز السبيل من منصبه على رأس وكالة وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية، لم أرَ -وربما القصور في رؤيتي- من أعطاه حقه من الإشادة والتوصيف المتميز.. فكل ما قرأته كان يدور في فلك (الوداعيات) أو (المخالصات) أو التحسّر على مرحلة عاشتها ثقافتنا المحلية، والقلق من مرحلة لم تتبين ملامحها بعدُ..!
أقول: الثقافة كلمة باتت في عصرنا تشمل الأدب والفكر والإبداع، و(الحب) أدبٌ وفكرٌ وإبداعٌ إنسانيّ انتهجه الدكتور السبيّل متعمّداً تكريسه وتعميمه على كل من احتك بهم أثناء ممارسته لمهام منصبه الوظيفي.. وهذا ما يُحسب له وستذكره أجيالٌ ثقافية قادمة وإن كانت ستسمع بالمرحلة وتقرأ عنها دون أن تعيش تفاصيلها.. غير أن من واجبي -كمعاصر للمرحلة ومحتك ببعض تفاصيلها- أن أقول شهادتي، بحسب تصوّري، على وجهين..
الوجه الأول، والأبرز، والأكثر وضوحاً: هو وجه (المحبة) التي أشاعها الدكتور السبيّل طوال فترة توليه منصبه، ولم يكن للمحبة أن تنتشر وتصبح أفقاً يراه الجميع لولا النشاط والإخلاص اللذين أخذا من الرجل كلّ وقته حتى أنهكه التعب والإرهاق ككل إنسان يركض أشواطاً طويلة في زمن قصير، وإن كان مدفوعاً بمحبةٍ تنبع منه أو حتى مغموراً بها ممن حوله، فلا بد له من استراحة لالتقاط الأنفاس.. وأكاد أجزم أنها مجرد (استراحة) سيعود بعدها أكثر حيوية وأغنى محبة مهما يكن موقعه الذي سيحتويه..
أما الوجه الثاني، في شهادتي وتصوري، فهو يتمثل في عدد من الوجوه (البشرية) التي تجيد ارتداء الأقنعة واستغلال كل إشارة حب تفتح لأصحاب تلك الوجوه طرقاتٍ لم يكونوا أهلاً لها.. وتلك الوجوه -للأسف- هي الأكثرية المتحركة في وسطنا الثقافي، فقد انتشرت كالنار الظامئة في الزهور اليانعة، ولم تترك فرصة للمحبة دون استغلالها للصعود درجات في سلالم الوجاهة والحضور (الثقافي!) الذي يضمن وصول المخصصات (المادية والمعنوية) إليهم، وهم أبرياء من كلّ استحقاق جدير لها..!
أقسم بالله أنني أعذر كلّ مسؤول يفتح كل الأبواب المغلقة أمام الجميع (وإن كان أكثر الجميع دخلاء ومستغلي محبة!) وأحترم في الدكتور السبيل أنه كان يحاول التفريق جيداً بين من يضيفون إلى الثقافة - محلياً وعربياً - وبين من يسعون من أجل مصالحهم التي تأخذهم إلى الواجهة لتنتقص كثيراً من وجهنا الثقافيّ.. (ويكفيه شرف المحاولة، دون الخوض في نسبة نجاحها)..
ومن هذا المنطق ومنطلقه، لا أظن رجلاً صادقاً كريماً كالمثقف الدكتور عبد العزيز يغضب حين يشار إلى مثل ذلك، بل أظنه أول المعترفين به والمتأملين له..
ودعونا نتأمل أبرز الإنجازات:
من دون ترتيب سأقول (الأندية الأدبية وملتقياتها) و(الكتب ومعارض الكتب) فبين هذين الجانبين تتمثل معظم الأنشطة لوكالة الشؤون الثقافية..
فإن أخذنا الأندية الأدبية لتفحّص حالها وحال فعالياتها بعد الحراك والتطور الذي استمر أربع سنوات -هي عمر الوكالة في عهد السبيل- سنجد ماذا؟
مجموعة من الأسماء والوجوه، بعضها يستحق الاحترام وبعضها يستحق الشفقة!، تتمركز (متعيّنةً) في مناصب رفيعة وقيادية و(عضوية!) لهذه الأندية الأدبية، ونرى تبادل الدعوات بين أعضاء كل ناد وآخر، حتى أنك -من دون بحث أو تقصٍّ- تستطيع أن تجزم (مجازاً) بأن كلّ عضو في كل ناد أدبيّ لا بد وأن أقيمت له أكثر من (أمسية) أو (ندوة) أو (محاضرة) في كل الأندية الأخرى..!
وبالمقابل تستطيع أن تجزم بأن معظم مثقفي ومبدعي هذه المرحلة، الفاعلين والمرموقين والمكرِّسين حياتهم للإنجاز الثقافيّ المتفوّق، إن لم يكونوا أعضاء في أيّ من الأندية الأدبية فهم سيظلون مغيبين عنها إلاّ في حالات استثنائية (كأن يمرض أحدهم أو يحوز على جائزة)!
أنا في الحقيقة لا أعرف الحلّ الأمثل لمثل هذه الحالات التي باتت سمة الأجهزة الثقافية الرسمية في معظم البلدان العربية، ولكني أتصور أن التقييم الحقيقي الجاد لنتاج ومكانة ووزن كلّ أديب أو مبدع في مشهدنا الثقافيّ يجب أن يتم عبر مراكز بحوث متخصصة (وقد ناديتُ بذلك في أكثر من موضع) أمّا إذا اعتمدنا على (المحبة) وحدها، فسنظل متأملين..!
هذا كلّ ما أستطيع البوح به عن (الأندية الأدبية) وقد لا يكون دقيقاً - بحكم وجودي في قائمة المغيبين عن مسؤولياتها، منذ الأزل..!
أما عن الجانب الثاني (الكتب ومعارض الكتب) فأستطيع أن أقول كثيراً، وأبوح كثيراً، بحكم أنها المتنفس الأوسع لكتبي التي هي شغلي الشاغل!
غير أني سأكتفي بالإشارة إلى أهم نقطة ناصعة نستطيع تلمّسها في إنجازات الوكالة، وبالتالي يكون كلامي عن أهم مأخذ (بحسب رؤيتي الذاتية وحسب)!
أمّا النقطة الناصعة فلها وجهان!
الوجه الأعرض، والأكثر حضوراً هو انتظام (معرض الرياض للكتاب) كلّ عام، وفي وقت محدد من السنة الميلادية، وهذا -في الواقع- إنجازٌ عربيّ مشترك، إذ باتت معارض الكتب منتظمة في كل العواصم العربية، وفي الرياض كان انتظامها حلماً فأصبح حقيقة نترقبها في كلّ مارس من كل عام..
يبقى الوجه المحلي في النقطة الناصعة، وهو (دعم المؤلفين السعوديين) بشراء كميات من كتبهم، وهذا -كما أفهم- دورٌ مميزٌ لا يتاح لكل الدول العربية أن تقوم به، مع أنه حاجة ملحّة من أجل تنمية الثقافة ومؤازرة المثقفين..
فقط لو روعي في ذلك التفريق بين الكتاب الذي يشكل إضافة حقيقية تستحق الدعم والتعميد والتعميم والاعتماد، وبين الكاتب الذي يرى في هذه الاعتيادية فرصة يجب استغلالها بكتابة أيّ شيء وكلّ شيء حتى يصدر كتاباً يتم شراؤه كبقية الكتب!
فالذي أخشاه أن يذهب جُلُّ الدعم للمتطفلين، فلا يبقى للمحترفين إلاّ ما دون القليل.. فالآلية المتبعة في عملية الدعم هذه، كما تبدو لي، تعطي (الكمّ) بالتساوي للجميع، فيضيع (الكيف) بين الجميع.. (مع احترامي وتقديري للجميع)..!
وهنا أسجّل للوكالة أيضاً، في عهد السبيّل، أنها أحدثت تطوّراً جميلاً يشكّل ظاهرة في هذه الناحية، فقد بتنا نشاهد الكتب المشتراة من مؤلفيها لحساب وزارة الثقافة -ممثلة بالوكالة- وهي توزع كهدايا لضيوف المملكة من المثقفين، وتطرح للبيع بأسعار رمزية لجمهور الثقافة في كل محفل رسميّ.. بعد أن كنا -في أزمنة مضت- نبيع نسخاً من كتبنا على (وزارة الإعلام)، ثم لا ندري أين تذهب كل تلك الكميات من الورق!
وهذا ما يجعل القلوب ترتجف من هذه الناحية، فقد أصبحت الصورة في صميم المشهد الذي يُحسب لنا أو علينا، ولم تعد مسألة دعم وتشجيع لا أكثر..!
ختاماً أقول: حيوية الأندية الأدبية، ومعارض الكتب، ودعم المؤلفين، ونشر النتاج الفكري السعودي، وغير ذلك.. بعض إنجازات كثيرة قام بها الدكتور عبد العزيز السبيل -بتفانٍ وإخلاص- من منصبه وكيلاً للشؤون الثقافية، وقد غمرها وكرّس في كل جوانبها (المحبة) التي لن تمحوها استقالته.. وكلّ الرجاء ممن يتسنم مسؤولية الوكالة الآن أن يحافظ على إبقاء تلك المحبة كما هي (دون التمادي فيها!) لأن ثمة أعمالاً ثقافية جادة تحتاج إلى إكمالها بحذر كبير وكثير من الدقة التي سترسم ملامح وجهنا الثقافيّ أمام مرايا المحلية والعربية والعالمية- التي لم تعد بمنأىً عن وجودنا الثقافيّ؛ فلتكن المحبة بعضاً من كلّ ذلك، كي لا تكون الثقافة هي البعض..!
الرياض
f-a-akram@maktoob.com