غزليات الشاعر بدوي الجبل
*... أحد شعرائنا المبدعين، وهو من مدرسة الشعر العربي الأصيل، وصاحب صوت شعري له خصوصيته وتفرده في دوحة أدبنا الخالد العظيم.. يجنح في شعره لصور خاصة به، ذات صياغات متوارثة عبر أجيال شعر العرب القدامى والمحدثين.. وهو مبدع في فنون الشعر جميعها، وعندما يكون الكلام عن الغزل، فإن بدوي الجبل أحد فرسان الغزل وأحد الشعراء الذين تتجلى في قصائدهم روح العشق والحب الخالد ذي الخصوصية المذابة في كؤوس الرحيق والمُدام المعتق.
بين أيدينا قصيدته (شقراء) المثبتة في ديوانه ص373 و374 و375 و376 و377 مؤرخة جنيف (12-5-1954م).. نقتطف منها الأبيات التالية:
شقراء
هَدْهِدْ همومكَ عندي
علي حيائي وصدِّي
حور النعيم تمنت
نعمى قواي ووجدي
هل عندهن رحيقي
وهل لديهن شهدي!!؟
حتى جلاني شعراً
يا حسرة الشعر بعدي
دنياي أحلى وأغلى
من ألف جنة خلد
أنا الربيع المندِّي
قارورة العطر نهدي
يهيم حسني بحسني
ويجتلي ويُفدِّي
وجنَّ ثغري بريقي
وحضنَّ جيدي لزندي
يا شاكيا زور وعدي
أحلى من الوصل وعدي
كل المحبين ملكي
وأنت وحدك ندي
وكبرياء جمالي
تريد منك التحدي
***
صورة الغزل عند بدوي الجبل تنحو منحى الصورة الحسية الحادة والحارة في آن واحد كما هي الحال عند امرئ القيس - صور تكشف المخبوء والمستور تماماً، وتخلع حركية التفاصيل على شهوة الجسد حتى يكاد القارئ يقف على لوحات واقعية حسية مرئية بحيثياتها وكينوناتها المجسدة وكأنها «بنوراما» تشكيلية لإيقاعات جسد ينزف شهوته ونشوته أمام القارئ ببراعة ومتعة فائقتين.. فقول الشاعر على لسان شقرائه:
أنا الربيع المندَّى
قارورة العطر نهدي
تشبيه خارق لحسية التشكيلية لحركة كينونة شقرائه في قاموس لوحاته تنتهي بتشبيه النهد بقارورة العطر الذي يسفح حليبه الشهي كما تسفح قارورة العطر عطرها لتسكر بنكهة رائحتها أنفاس عشاقها ومحبيها.. بدوي الجبل مشهود له بتلك الصور المركبة ذات الثنائية المتشابكة في مدلولها وصياغتها حتى لنحس بتلك الحركة المذهلة في إيقاعية الصورة عندما ما لا نحس به، ولا نلمسه إلا عند قلة من الشعراء المجيدين في فن الشعر والغزل لدرجة فائقة من العذوبة والشفافية التي تغرق قارئها بفحواها حتى يذوب ويغيب فيها وكأنه هو المتيم الوله الصب النشوان بطلى كأسها ورحيقه المارق العجيب...
كل بيت في قصيدة بدوي الجبل هو عبارة عو لوحة فاض منها الجمال حتى أغرق ما حوله برذاذ تفاصيله الآسر ولك جملة شعري عند هذا الشاعر هي كأس تعبق بالشهد والمتعة والجمال المُشهى.. حتى ليكاد هذا البيت الذي نذكره هنا أن يكون قفلة المتع كلها على لسان الشقراء لعشاقها، أو لعاشقها الأوحد الذي تيمته بصبابتها!؟ إلى درجة الذوبان والمستحيل:
هل عنهدن رحيقي
وهل لديهن شهدي
إنها تتمثل نفسها وكيانها أعلى وأشهى من الحور العين، وترى ذاتها فوق الخلق البشري وكائنات الحياة، تلك القصيدة شقراء لبدوي الجبل والتي تضعنا أمام صور الغزل الحسي المكهرب والذي يجعلنا نتلمس تلك الصور وكأننا كائنات تنبض بالشهوة والحياة فتثيرنا بلا حدود وتفضح نشوتنا بحرارة.
الرياض