مدينة عَرْعَر نموذجًا-7
كان الشاعر سلمان بن محمّد الفَيفي في سيرته وفي شِعره يضجّ بحُبّ مدينة عَرْعَر، وظلّ يحنّ إليها طيلة عمره. إنه الحُبّ القَدَر، كما تجسّد في قصيدة له عنوانها «عَرْعَر والقَدَر»(1)، يحكي فيها تاريخ عَرْعَر، كما عاصرها، حيث يقول:
كانتْ أبياتاً مِنَ الشَّعَرِ
تحتَ أمواجٍ مِنَ الغَبَرِ
فَوْقَ سَطْحِ القَفْرِ نائمةً
فَوْقَ صَدْرِ الرَّمْلِ والكَدَرِ
في تُخُوْمِ الأرضِ جاثِمَةً
في عُبُوْسِ اللَّيْلِ والضَّجَرِ
في لَهِيْبِ الصَّيْفِ- مُتَّقِداً-
تَنْفُثُ الأرواحَ مِنْ سَقَرِ
والجَمادِ القرِّ- مُنْعَقِداً-
زَمْهَرِيْرٌ بالغُ الأَثَرِ
جاهَدَتْ و الخَوْفُ يَسْكُنُها
وانْبَرَتْ في مَوْعِدِ القَدَرِ
وإذا الأَهْوالُ ذاهِبَةٌ
وإذا الأَرْزَاءُ في خَوَرِ
مَنْ رآها بَعْدَ ما بَلَغَتْ
دُرَّةً مِنْ أَنْفَسِ الدُّرَرِ
لم يُصَدِّقْ أَنَّها بُنِيَتْ
فَوْقَ هامِ الرِّيْحِ والعَفَرِ
دِيْرَةٌ طابَتْ لِقَاطِنِها
مِنْ بَنِيْ قَحْطانَ أو مُضَرِ
أَظْهَرَ الوَادِيْ مَفَاتِنَهُ
تَاهَ بالإِسْكَانِ والجُسُرِ
****
عَرْعَرَ البَيْدَاءَ يا بَلَداً
أَصْبَحَتْ مِنْ أَنْصَعِ الغُرَرِ
عَرْعَرٌ سَارَتْ على عَجَلٍ
في ثِيَابِ الدَّلِّ والخَفَرِ
دِيْرَةٌ جَاشَتْ بِنَهْضَتِها
زَمْجَرَتْ بالمَدِّ لا الجَزرِ
سُوْقُها فاضَتْ مَوارِدُهُ
بنَمِيْرِ الوِرْدِ والصَّدَرِ
****
قادَها شِبْلٌ مِنَ الجَلَوِيْ
مُسْتَنِيْرُ الرَّأْيِ والبَصَرِ
حاسِمٌ في كُلِّ نائِبَةٍ
مِثْلُ حَدِّ الصَّارِمِ الذَّكَرِ
جاءَها واللَّيْلُ مُعْتَكِرٌ
فانْتَشَتْ جَذْلَى بمُنْتَظَرِ
مِثْلَ أُمٍّ «زَغْرَدَتْ» فَرَحاً
بوَلِيْدٍ عَادَ مِنْ سَفَرِ
هَلَّلَتْ واللهُ أَنْقَذَها
مِنْ حَياةِ البُؤْسِ والخَطَرِ
والرِّمَالُ الحُمْرُ أَبْدَلَها
جَنَّةً للبَدْوِ والحَضَرِ
****
يا عَرُوساً قد فُتِنْتُ بها
زَهْرَةَ الرَّيْعَانِ مِنْ عُمُري
أَصْبَحَتْ عَذْرَاءَ ساهِرَةً
في لَذِيْذِ اللَّهْوِ والسَّمَرِ
غادةً أَرْخَتْ ذوائِبَها
فَوْقَ تَاجِ النَّجْمِ والقَمَرِ
حُرَّةً غَيْدَاءَ غانِيَةً
تَزْدَهِيْ بالحَاضِرِ النَّضِرِ
تَسْحَبُ الأَذْيَالَ رافِلَةً
في الأَمَانِ الوَارِفِ الخَضِرِ
سَابَقَتْ أَتْرَابَها وسَمَتْ
للعُلا، للمَجْدِ، للظَّفَرِ
عَطَّرَتْ أَرْدَانَ رَائِدِها
مِنْ عَبِيْرِ الشِّيْحِ والزَّهَرِ
ضَاعَ مِنْ أَفْوَافِها عَبَقٌ
مِنْ نَسِيْمِ الرَّوْضِ في السَّحَرِ
يَتَغَنَّى وانْتَشَى طَرَباً
في رُباها صَادِحُ الشَّجَرِ
يُبْدِعُ الأَلْحَانَ ساحِرَةً
مِثْلَ صَوْتٍ سَالَ مِنْ وَتَرِ
****
كَمْ حَدَانيْ الشَّوْقُ مُسْتَعِراً
للرِّيَاضِ الخُضْرِ للمَطَرِ
أَرْتَوِيْ مِنْ عَذْبِهَا وكذا
أَجْتَنِيْ مِنْ يانِعِ الثَّمَرِ
****
عَرْعَرُ الجَرْدَاءُ قد لَبِسَتْ
مِنْ بَدِيْعِ الخَزِّ والوَبَرِ
فاهْتِفِيْ شَتَّانَ، يا بَلَدي،
بَيْنَ رَأْيِ العَيْنِ والخَبَرِ
إنها رحلة روحٍ في مكان، ألهمتْ صاحبَها قسطًا من ديوانه الشِّعري، وجُملةً من المعاني والصور. تؤكّد أن المكان هو الإنسان. ولعلّ ما أغرى الشاعرَ بحبّ عَرْعَر أكثر أنها وافقتْ شخصيّته، ببساطة تلك الشخصيّة، ونزوعها إلى الحريّة، والمجتمع الفطريّ، المفتوح نسبيًّا على مشارف أخرى. إنها تشبهه، أكثر حتى من بلدته الأُمّ: فَيفاء. فهو كما وصفه الشاعر صغيّر بن غريب بن عبدالله- في قصيدة بعنوان «سلمان»(2) ألقاها في حفل ثقافي أقامه نادي بدنة (عَرْعَر)، لتكريمه، في رمضان 1412هـ- إذ قال:
إيهِ سلمانُ لستَ من زمرةِ الغربِ،
بريءٌ من عالم الأثرياءِ
أنت من عالمٍ يؤرّقهُ الجُرحُ
ويسمو بروحِهِ للنقاءِ
شاعرَ المجدِ لم نكرّمكَ نحنُ
أنت كرّمتنا بطيبِ اللقاءِ!
أمّا أنا فأقول من قصيدة «سلمان»، في رثاء الشاعر(3):
ما جَفَّ حِبْرُكَ في دَمِيْ، يا خَالي
أَبَدًا، ولا أَدَبٌ سَرَى بِخَيَالِي
.. وفَتَحْتُ قَلْبَكَ، عالَمًا من أَنْجُمٍ،
وسَمَحْتَ لي، فجلستُ حيثُ حلا لي
هذي حُرُوْفُكَ، أم حُرُوْقُكَ، لم تَزَلْ
بالحُبِّ يُشْعِلُ نَبْضُها أَوْصَالي
هذي «طُرُوقُكَ»، بَدْؤُها والمُنْتَهَى،
طَيْرٌ بسِدْرَةِ قلبيَ الأَطْلالِ
في كُلِّ نُوْنٍ لَفْتَةٌ حُوْرِيَّةٌ
تُلْقي على كَتِفِ الزَّمانِ سُؤالي:
هلْ غادرتْ مِنّي الأصَابِعَ نَبْرَةٌ
رُوحِيَّةُ التَّكوينِ والأفعَالِ؟!
****
إنْ أَوْحَشَتْ مِنْكَ المسَاءَ عُيُونُنَا
فعُيُونُ شِعْرِكَ لَذَّتي ووِصَالي
كَمْ كُنْتَ غَضًّا، كالتَّحِيَّةِ، مُشْرِقًا،
جَزْلاً، جَمِيْلاً، أُمَّةً بِحِيالي
قد كان كأسُكَ من ذَكاءٍ كُلُّهُ
أَشْهَى على كَبِدِيْ مِنَ السَّلْسَالِ
فشَرِبْتُ صَوْتَكَ، صافِيًا، تَرْوي بِهِ
سَمْتَ الكُهُوْلِ وشِقْوَةَ الأَطْفَالِ
«في البحرِ يسبحُ بي خيالٌ مُغْرِقٌ»
غَنَّى القصيدُ. فهام كُلُّ جَمَالِ!
ولقد كَتَبْتَ بغَيْمَةٍ خَضْراءَ خا
تمةَ البروقِ وجمرةَ الإشْعَالِ!
نَهْرًا من الحِبْرِ المضِيءِ، فرادِسًا
من فاكهاتِ الفِكْرِ والأمثالِ!
سُبْحانَ مَنْ وَهَبَ المَواهِبَ للوَرَى
وحَبَاكَ منها أَنْجُمًا ولآلي!
صَوْتٌ نَمِيْرٌ، ماؤُهُ مُتَهَلِّلٌ
غَسَلَ الفُؤادَ بِقَطْرِهِ الهَمَّالِ
فرَبَتْ عُرُوْقُ الأرضِ، والإنسانِ، لو
أنّ الحجَارةَ تُسْتَثارُ لِغَالي
لهفا رسولُ العِشْقِ مِنْ حَدَق الذُّرَى
يَنْعِيْكَ، يا لُغَةَ الضَّميْرِ العَالي!
****
إنْ قِيْل: إنّ الشِّعْرَ تُلْهِمُهُ الرُّؤَى،
سأقُوْلُ: شِعْرُكَ رُؤْيَةُ الأَجْيَالِ
في كُلِّ بيتٍ ألْفُ عَيْنٍ، كُلَّما
أَنْشَدْتَهُ جاشَتْ شِعافُ جِبالي
تَرْمِي قوافيَ كالنيازكِ تارةً
وقوافيًا كعواسِلٍ ونِصَالِ
وتُنضِّدُ الإحساسَ كاذًا يانِعًا
باقاتُهُ مَلأتْ عَلَيَّ سِلالِي
ورأيتُ في أُفُقِ التَّلَقِّي أدمُعًا
ملأتْ كتابَ الحُبّ والإجْلالِ
بجَمالِها وجَلالِها، بنِسائِها
ورِجَالِها، وبأذْرُعٍ وتِلالِ
فَيْفاءُ منكَ اليَوْمَ تَبْكي شاديًا
مَسَحَ الدُّموعَ بصَوْتِهِ السَّيَّالِ!
****
- سلمانُ، يا سَيْفًا تساقَطَتِ الظُّبَى
وبَقِيْتَ وحْدَكَ صَارِمَ الأهْوَالِ!
أنتَ الحِكايةُ، يا ابنَ آدمَ، قُلْ لَنا
كيفَ أرتأيتَ حِكايةَ الآجَالِ؟
- منذُ الطُّفُولةِ عِشْتُ «أيُّوبًا»، إلى
أنْ ماتَ صَبْرُ الصَّبْرِ في التَّرْحَالِ!
ما ذُقْتُ لونًا واحِدًا مِنْ لَذَّةٍ
إلاّ بهِ قزَحٌ مِنَ الأثْكَالِ!
ضَمّدْتُ بالجُرْحِ الجِرَاحَ، ودونَها
سَرَطَانُ بَحْرِ المَوتِ فِيَّ يُوالِي
قَضمَ الشَّباب -جَهَالَةً- لم يَدْرِ ما
فَعَلَتْ يداهُ بصَفْوَةِ الأشْبَالِ!
ما راعَني الموتُ الزُّؤَامُ مُصَافِحًا
إذ راعَ كُلَّ فرائصِ الأبطالِ!
**********
(1) الفَيفي، سلمان، (2007)، مرافئ الحُبّ، تح. عبدالله بن أحمد الفَيفي (جازان: النادي الأدبي)، 111- 114.
(2) م.ن، 24.
(2) (2005)، فَيفاء، (دمشق: اتّحاد الكُتّاب العرب)، 146- 150.
الرياض