أقترح في إحياء ذكرى المبدع إعادة نشر نماذج من إبداعه في المنابر الإعلامية لتأكيد حضوره الذي عايشناه لإطلاع قراء اليوم عليها، فهو مبدع مدهش سيظل مقروءا، وسيظل ما كتبه ممتعا. هذا الإجراء هو الأمثل لإحياء ذكرى المبدعين، أما ذكرياتنا الحميمية لكونه صديقا وزميل عمل وشريكا في الاهتمام تربطنا به وشائج فكرية وإبداعية وصداقة لن تعدو عن كونها ذكريات وإن سلطت الضوء على جوانب من سيرته الفذة. يبقى عطاؤه المتميز هو الأولى بالاهتمام، فهو وميضه الحي. قدم الراحل عبد العزيز مشري لأدبنا المحلي روائع في القصة القصيرة والرواية ستبقى علامات بارزة على طريق الإبداع. تدحض خوفه أن يكون حصاد مسيرته مع رفقة القلم والألم هزيلا يخجل منه. فما قدمه في عمره الزمني القصير مبهر وغزير جعله قامة إبداعية رفيعة ذات مهابة.
قدم عبد العزيز إبداعا مسئولا محملا «بالهم العام» على حد تعبيره حظي بالاحترام والتقدير من القراء، الذين تابعوا ما كتب باهتمام وتقدير. وصف تفاعلهم المدهش: «فردود الفعل الحية كانت تصلني حتى من أناس لا يعرفون القراءة والكتابة» هذا يؤكد حقيقتين أن القراء يقدرون الصدق الفني والموقف المشرف للمبدع، وأن عبد العزيز كان مهتما بهم.
شرع عبد العزيز مبكرا بتقديم عطائه القصصي والروائي الذي منح إبداعنا السردي ملامحه الحديثة الناضجة. كان عطاء غزيرا ومتنوعا. مما يبرهن على أن وراء إبداعه هذا تقف موهبة فذة، تمتلك طاقات غير محدودة، وإرادة عنيدة لم يستطع المرض الشديد أن يمنعها من تقدم ذاك العطاء الغزير والمتنوع: قصة ورواية وسيرة ومقالة وشعرا ورسما بالريشة والفرشاة. اقتحم مشري عالم الرواية عندما كانت الرواية نائية في منطقة حصينة. لا يقترب من أسوارها إلا من كان يمتلك طاقة إبداعية كبيرة ونفسا عميقا، وقبل ذلك الجرأة والتجربة والاطلاع. أدهشني عندما ذهبت لزيارته بمصر، وقدم لي مخطوطة روايته الأولى بثقة: أنجزت هذه الرواية. ظنته مازحا كعادته، وأنا أقلب ورقاتها حسبتها مغامرة، وكأنه يقول لي ما قاله لاحقا: «عندما أستعد للدخول في المغامرة. فإنني أكون ممتلئا بالثقة». نعم بثقة اقتحم عالم الرواية دون تردد، أو شعور بالوهن والعجز الذي يثيره مرض السكر الذي أصابه مبكرا وتربص به. كتب «الوسمية» مع اعتلال صحي جديد سببه خطأ طبي في العلاج، نجم عن جرعة دواء لم يحتملها جسده الواهن. أعطبت الجرعة الكلى، وأفقدته توازنه. فلم يعد قادرا على المشي إلا معتمدا على أحد. في أثناء هذه الأزمة الصحية الجديدة، ومعاناة الغربة في القاهرة أنجز روايته «الوسمية». لم يستسلم للمرض توالى عطاؤه المدهش. تستحثه دوافع منها أن الكتابة عنده كما يقول: «إنها إنتاج واعٍ ومدرك» إنها رسالة اجتماعية من أجل التغيير أن «يرفع الكاتب رايته في أول المسيرة الطلائعية المبشرة»، كما على الكاتب أن يحمل تلك الرسالة بأمانة ومسئولية واعية أيضا تجاه القارئ: «يظهر على الفور القارئ المخاطب، والذي أرى أنه سيقرأ العمل، وقد لا يكون بالتحديد ذلك الذي كتبت من أجله». لا يكتفي عبد العزيز بذلك بل يحاول أن يحدد مستوى قارئه المفترض «لا بد من تحديد مستواه الاستيعابي، وتصور المدى التأثيري فيه، ومراعاة كسب ثقته وتعاطفه». هذه هي المسئولية التي ألقاها على كاهله وعيه ونضجه ومعدنه الطيب الذي لا يصدأ. هذه المسئولية التي ينبغي أن يحملها حملة الأقلام.
حرضه وعيه على نقلة جوهرية من مجموعته الأولى «موت على الماء» وتدشين المرحلة الإبداعية الناضجة التي عرفناه فيها وبها. كتب عبد العزيز مجموعة «موت على الماء» تحت تأثير أفكار كولن ولسن في «اللامنتمي» حيث أشار مشري لذلك بوضوح «أن اللامنتمي خلق في عصر غير عصره، وعليه فقدره أن يكون مخالفا لكل معتاد، كنت أتعامل مع إبداعاتي المتعددة بهذا المفهوم» ثم توقف عن الكتابة الإبداعية لمدة سبع سنوات من 1979 سنة صدور «موت على الماء» حتى 1986 سنة صدور روايته الأولى «الوسمية». كان يراجع الذات الإبداعية لاتخاذ قرار الكتابة الصعب، منشغلا بالبحث عن جديد، تحت ضغط القيمة الفنية والاجتماعية للإبداع. كان مشدودا بجدلية هذا الموقف، فإلى جانب اهتمام بمستوى المتلقي كان مهتما بالجانب الفني لإبداعه» لا يعني هذا أن على الكاتب التمشي مع تلك المفاهيم؛ يعني التي تشوه الصدق والمنطق الفني. فالمبدع وفق رؤية عبد العزيز: «بطبيعته يرفض التشويه». كانت الكتابة أيضا بالنسبة لعبدالعزيز إكسيرا للحياة، يقاوم به المرض، ومسكنا يستعين به لتناسي تباريح الألم. ها هو يحدثنا عن استعداده ليدخل طقس الكتابة كما يقول: «فها إني وبصورة برجوازية أستمع لإحدى سمفونيات موزارت وعلى الطاولة فنجان قهوة بينما يصدح جاهرا نور كهربائي مسلط على الورق... دمي غسلته اليوم في المستشفى صباحا، وقلمي عبأته قبل قليل بالحبر الأسود».
* القطيف