تبرز بين فترة وأخرى أعمال تلفت النظر من قبل بعض التشكيليات السعوديات يخرجن بها من حيز التقليدية أو الشكل المتعارف عليه في الساحة اعتمادا على التزيين والبحث عن جوانب الجذب وإثبات القدرة على التنفيذ أكثر منه تعبيرا عن الفكرة التي تحمل أبعادا فلسفية تؤكد ما تمتلكه الفنانة أو الممارسة للعمل من مخزون بصري مزج بثقافة واعية تجاه منجزها وكيفية التعامل معه كعمل فني يحتاج إلى بلورة دقيقة لتحويله إلى نص بصري مكتمل البناء ومعبر بشكل معاصر عن حقيقة العمل بمفهومه الفكري.
لهذا نجد للفنانة إيمان الجبرين ضيفتنا لهذا الأسبوع محاولات جادة لإضافة الجديد على الساحة التشكيلية المحلية (النسائية) مع شعورنا بما تعيشه من حيرة الاختيار بين الخامات التي تمارس بها إبداعاتها إلا أنها تقدم في كل منها أعمالا استحقت الإعجاب وحازت على قناعة لجان التحكيم ومنحت لها الجوائز.
البحث والتجريب
في أعمال إيمان
الهواجس الفنية التي تداعب مخيلة المتلقي المتابع لأعمال الفنانة إيمان الجبرين تجعله في مخاض يصعب عليه توقع ما يمكن أن تقدمه في المعارض التي تشارك بها عودا إلى سعيها بمفاجأته بالجديد، لكن الأمر بالنسبة لها يمر مرورا كريما نتيجة استباقها للنتائج وهذا هو أحد الجوانب التي تميزها عن غيرها ممن نشاهد لهن أعمال غير مستقرة موضوعا ومستوى تنفيذ فكانت شبه مرتجلة أو مبنية على المصادفة، وإذا عدنا إلى تنوع الخامات لدى الفنانة إيمان بين أعمال الكولاج والخزف والتصوير الزيتي إلى آخر المنظومة واخترنا منها الأقرب لمشاهداتنا لبعض الأعمال تمثلت في ما قدمته في مجال الكولاج في معرض مسابقة السفير الثانية وحازت فيها على الجائزة الثانية وفي أعمالها في معرض التشكيليات وغيرها من المعارض نجد أنها تتعامل مع هذه التجربة بناء على وعي كبير بمفهوم الكولاج باستخدام عناصر مسبقة التجهيز كالصور أو الصحف وخلافها أو أي خامة مستهلكة وتوظيفها بما يتواءم مع الفكرة مع إضافة روح وشخصية الفنان عبر بعض الإشارات أو الرموز أو اللون وهذا ما جعل لأعمالها سمة خاصة.
كما يتضح في أعمال الفنانة ميل للتصميم في بناء العمل خصوصا في ما يتعلق بالكولاج بينما نجدها في أعمال الخزف أكثر تحررا، إلا أن حرصها على إبراز الفكرة وتطوير كيفية التعبير عنها كانت القاسم المشترك لكل أعمالها مستلهمة بها العناصر والمفردات التشكيلية الشعبية بمعطياتها كتلة وخطوطاً، تربط في كثير منها بين العمارة والزخرفة وتلامس ما يوحي بوجود المرأة، بتلخيص غير مفرط تحتضن فيه الواقع بإيجاز لجماليات الحياة الإنسانية معيدة من خلال هذا التعامل الرفيع نصاً بصرياً جديداً يزداد تألقاًً في كل تجربة تخوضها، كما أن من المزايا البارزة في تجربة الفنانة إيمان الجبرين أن تأليفها لعناصرها التشكيلية بهذا الاختزال يتيح لها مساحة كبيرة من الحرية عند اعتزامها إنتاج أي عمل جديد.
كل فنان يشعر أن لديه قلباً نابضاً وإحساساً مفعماً بالعطاء لكن لا يمكن أن يؤكد ذلك إلا حينما يتفاعل به مع الواقع الإنساني، وكون الفنانة إيمان محسوبة على التشكيل النسائي لكنها تقف عند هذه الصفة وتقبلها كمعنى شائع وتقليدي، وتتجاهلها كمسمى وتعممه كإبداع إنساني لا فرق فيه بين جنس وآخر لهذا فهي تبحث عن ما هو أبعد في أعماق مختزلها لأن يكون إبداعها وسيلة تعبير مع سعي إلى أقرب مساحة من الكمال فهي من خلال تعاملها التقني مع منجزها، تبتكر لغة بصرية تجاه المتلقي، لغة استقت مفرداتها من محيطها وواقعها وقيمها، لغة تعبير عن مشاعر الإنسان بالمطلق المشاعر الواحدة، والغة الواحدة، تتبع في التعبير عن موضوعاتها منطق أن فهم الجزء سبيل إلى فهم الكل.
لقد استطاعت الفنانة إيمان الجبرين من خلال ما يتوفر لها من الخامات بالانغماس في عمق المشاعر الإنسانية من خلال بوابة التراث جمعت فيها بين الرمزية والتجريدية مفرداتها التشكيلية الخاصة.
للمرأة حضور مهم وبارز في لوحاتها وخزفياتها، بكل ما تعنيه من عاطفة ومواقف شاعرية.
تعددت الخامات والإبداع واحد
تعدد الخامات لا يعد عيبا أو تؤثر على مسار الفنان وعطائه خصوصا إذا كان قد حقق الخصوصية والشخصية التي يعرف من خلالها دون وجود إمضائه على العمل ولنا في تاريخ الفن الكثير من الأمثلة الكثير منها ما قدمه الفنان بيكاسو أو الفنان دالي وفي عالمنا العربي الفنان ضياء العزاوي من العراق وأحمد نوار من مصر من إبداعات تنوعت فيها الخامات وطرق التنفيذ مع الاحتفاظ بالخصوصية أو السمة والروح الفنية للفنان، لهذا فالقدرة التي تمتلكها الفنانة إيمان الجبرين في التعامل مع مختلف الخامات أتاح لها اختيار الخامة التي تتوافق مع الفكرة وتجسدها على الواقع، ومن هنا نجدها تارة مع الخزف وأخرى مع الكولاج والألوان بمختلف كيميائياتها، ومع هذا التنوع في الخامات يجب أن نعي أن هذا التعامل ليس سهلا لاختلاف آلية وتناوب الممارسة خصوصا إذا تزاحمت لدى الفنان أكثر من فكرة في وقت واحد ولكل منها خامتها أو وسيلة التعبير عنها.
ليونة الطين وطراوة التكوين
أما جانب الخزف فالأمر يختلف نتيجة ما لهذه الخامة من مراحل طويلة ومضنية قد لا تنتهي بتحقيق الهدف بسبب أي خطأ يواجه الفنان ابتداء من إعداد الطينة وتشكيلها مرورا بتعريضها لحرارة الفرن المخصص وصولا إلى ما تحتاجه من إضافات لمواد القليز (طلاءات زجاجية تذوب على القطع الخزفية عند تعريضها لدرجة حرارة الفرن) أو ما يجب أن تمنح من عناية عند عرضها في المعارض، هذه الخامة التي تأتي في الدرجة الأولى من أساليب النحت أو التجهيز للقوالب التشكيلية تعتبر من أهم الخامات السهلة الممتنعة عند التعامل معها كما أن ما ينطبق على النحت نجده منطبقا عليها في جانب التعامل مع الكتلة الملموسة والفراغ في الكتلة وكيفية إعادة تشكيله بكل الطرق من بارز وغائر ومجسم.
ألوان الوطن وتراثه
تغمس الفنانة إيمان فرشاتها وتداعب بأدوات تشكيل الخزف كل جزء من أرض الوطن مستلهمة تراثه وعاشقة لألوان بحره وزرقة سمائه وروعة صحرائه ووهج شمسه فهي تجمع شتات بصرها بين الصحراء ولونها الممتد إلى حدود شواطئه من الخليج شرقا إلى البحر الأحمر غربا، كما تنتقي من جبال أجا سمارها ومن أبها الخضرة وحبات البرد.. تتجه كل صباح إلى فضاء رحب من مصادر الجمال وتغوص في ثناياه وتفاصيله وأجزائه تعود منها كل يوم كما تعود الطيور إلى أوكارها عبر دروب الفن لتجمع كل هذا الانعكاس على إبداعات تعيد فيها تشكيل هذا الحب للحياة بمنظور جديد اسمه الفن التشكيلي.