في البدء:
(بين كل اثنين يمتد جسر وهمي تنقل العيون عبره ما لا يقال).
يقظى ونائمة في المقعد الخلفي وكفها البيضاء المطلة من النافذة المرسلة عطرها إلى أنوف المارة تشع بكف أخرى فوقها مصنوعة من ذهب والعروق الخضراء الممتدة تحت جلدها تحكي بالدلال وغلالة الوجه الحريرية السوداء الرقيقة تشف عن عينين وحشيتين تجرحان بحركة الرموش حال إغماض الجفنين الأبيضين وفتحهما ومكان السائق مسكون بالانتظار الممل، وأنا خارج من المكتبة أحمل الكتب والتعب والمرض وأشياء أخرى لا تقال وكفي مجهدة وآثمة وعروقي تنطق بالخلل ودركات السلم الحجرية التي أهبطها والرصيف العاري من العشب والأشجار يفصلان بين كفي وكفها ووجهي المنسوخ من وجه أبي لا يكف عن فضيحتي وعيناي جسر ينقل إليها كل ما في نفسي.
أم أدرك أن لعينيّ كل هذه القدرة الهائلة على النقل إلا حين حاذاني أحد رواد المكتبة وهو يرقى درجات السلم آخذاً طريقه إلى بابها ونهرني: (اخجل لقد أكلتها بعيونك).
حين سمعت نهرته أسقط في يدي وتدحرجت الكتب فالتفتت نحوي فاتحة عينيها ووسوس الذهب في كفها التي انسحبت قليلاً عن مكانها فوق باب السيارة المطلي باللون الأبيض.. صاخب ذلك الشارع بحركة المارة وأصوات الباعة والسيارات وشهي بها وبرائحة (الشاورما) والكباب المشوي على الفحم ومساء الهفوف يوقظ خلايا ميتة في جسدي ويشطرها من جديد.. جلستُ على إحدى الدركات تاركاً جمع كتبي لأجمع أشياء حميمة فرّت مني.. جل الرواد والمارة ينظرون إليّ ولا يسألون فموسم الامتحانات قد ابتدأ.
جميل أن تمارس الكلام مع امرأة بعينيك وأن يلزم الصمت لسانك الجبان لتقول عيناك لها ما لا يقال.. كانت هذه القناعة الجبانة خلاصة جمعي للأشياء الحميمة التي فرّت مني أو سُرقت في مساءات الهفوف في زمن كنت فيه أشعل أشياء مبهجة غير السجائر والحطب اليابس والصور والمشاعر السوداء.
حين اتصل الجسر بين عينيّ وعينيها خرج من قاع نفسي هذا الكلام: هذا الذي ترينه قاتل في الحرب من غير تدريب وأكمل دراسته بدون امرأة وحورب في عقله وأشيعت حوله حكايات كثيرة وانهارت مبادئه وسكنت جسده أمراض عديدة وسُحر مرتين وتعرض للموت مرات كثيرة ونجا من حوادث سير وحوادث غرق وحوادث حرق وشُتم كثيراً كثيراً في غيابه.
لم تحتمل ما كان يمشي من قاع نفسي إلى قاع نفسها فقطعت الجسر بإغماض جفنيها وعادت إلى حالتها الأولى بين النوم واليقظة.. ثويت مكاني على الدركة وحولي الكتب مبعثرة أرجو الجسر أن يتصل ثانية فلا زال قاع نفسي يحوي الكثير ولا زالت عيناي قادرتين على توصيل الكلام.
شيء ما دعاها فالتفتت إليّ فاتحة جفنيها كاشفة وجهها بكفها فوسوس الذهب ثانية في يدها وأقامت الجسر قوياً بين عينيّ وعينيها.. ثانية واحدة وشلت عيناها قدرة عينيّ على نقل الكلام.. كان قاع نفسها مكتظاً ومدخراً أشياء لا تباح وكان ما فيه يمشي إلى قاع نفسي منتقلاً عبر الجسر وقد خرج منه هذا الكلام: هذي التي تراها فقدتْ أعز ما تملكه.. وقطعت الجسر فجأة بإغماض جفنيها وإعادة الغلالة الحريرية الرقيقة السوداء على وجهها بكفها ووسوس الذهب مرة ثالثة في يدها فالتفت لأعرف السبب فإذا بالرجل الذي نهرني وهو يصعد درجات السلم يحاذيني ثانية وهو ينزل دركاته وينهرني نهرة أغلظ من الأولى: (استحِ والله لو أنها ذبيحة لانتهت بين أسنانك).
حين سمعتْ نهرته نزلت من سيارتها وانكشفت ربلة ساقها البيضاء.. حينذاك شعرتُ أن لساني الجبان نطق وقال: تعالي نجمع الكتب.